عند الشروع بصياغة إستراتيجية فلسطينية شاملة، وهي مهمة وطنية ملحة، ينبغي أولا حسم مسألتين هامتين، وتحديد ماهيتهما بدقة، لأن الإستراتيجية بأكملها ستبنى عليهما، وهما الأهداف والوسائل.
ولا شك بأن الهدف الأسمى لأي فلسطيني هو تحرير كل فلسطين، ولكن في عالم السياسة لا مكان للأحلام، إلا بالقدر الذي تستطيع فيه تحقيقه (جزئيا أو كليا)، ولما كان تحرير فلسطين وتصفية الكيان الصهيوني يتطلب تجييش الأمتين العربية الإسلامية، وإحداث تغييرات جذرية في المعادلة السياسية الإقليمية، وفي بنية النظام الدولي؛ فإننا أمام واقع مختلف كليا؛ واقع يجعل من انتظار هذا الأمر ضربا من العبث والوهم؛ وطالما أن هذه الشروط خارج حدود القدرات الفلسطينية، بالتالي كان لا بد من التحرك في ضوء ما تسمح به موازين القوى والمعادلات السياسية التي تحكم العالم، أي التحرك وفق الحدود التي يسمح بها المجتمع الدولي، ولكن بواقعية ثورية وسياسية. وهنا، سيكون أمام الفلسطينيين خياران: مواصلة النضال من أجل بناء دولة فلسطينية مستقلة على حدود الـ67، خالية من المستوطنات وعاصمتها القدس، وضمان حل عادل لقضية اللاجئين، وهو ما يعرف بحل الدولتين، وهو الحل الوحيد المطروح حاليا، على الأقل على المستوى الإعلامي، بيد أنه وحتى هذه اللحظة، ورغم كل علامات الموت السريري لمشروع حل الدولتين، ورغم تعثر المفاوضات واصطدامها بحائط التعنت الإسرائيلي، إلا أن مختلف الأطراف تتجاهل هذه الحقيقة، ليس لأنها لا ترى بوضوح؛ بل لأن الإقرار رسميا بموت حل الدولتين يعني البدء بالبحث عن بدائل، وهو ما لا تريده كافة الأطراف.
أو التوقف كليا عن أطروحات حل الدولتين، بعد تبين فشل هذا الخيار، والتوجه لخيار الدولة الواحدة، وهذا يتطلب تبني نهج نضالي مختلف، يفضي إلى التحرر من فكرة حصر الكفاح من أجل تحرير الأرض، إلى الكفاح من أجل انتزاع الحقوق، لضمان التطابق بين وحدة القضية ووحدة الأرض ووحدة الشعب، وبدلا من النضال من أجل إقامة دولة على جزء من فلسطين، النضال من أجل دولة واحدة على كل الأرض الفلسطينية، أي دولة ديمقراطية علمانية لكل مواطنيها، وطرح هذا التحدي على إسرائيل، وعلى العالم. أما الأساليب، وعلى ضوء ما تقدم، ليس أمام الفلسطينيين من خيار سوى مواصلة الكفاح، ولكن، بالاستفادة من التجارب السابقة، وتجاوز الأخطاء القاتلة التي مورست سابقا، سواء في المقاومة المسلحة، أم في المفاوضات؛ بالنسبة للمفاوضات ينبغي بداية حسم الموقف منها، والإجابة على السؤال: هل الأزمة في مسار المفاوضات وتكتيكاته المتبعة؟ أم في الخيار التفاوضي نفسه؟ فإذا كانت الأزمة في المسار والتكتيكات، فيمكن تحسين الشروط والأداء، أما إذا كانت في الخيار نفسه، فينبغي التوقف كليا عن هذا التوجه، والبدء فورا بتبني خيارات إستراتيجية مختلفة كليا. وعن هذا السؤال يجيب د. «محمد حمزة» قائلا: إذ كان الجانب الفلسطيني مُجبرا أو مضطرا للعودة للمفاوضات؛ فعليه اشتراط إجراء تغييرات جذرية في هذا المسار، كأن يتمسك بالمرجعية الدولية، وأن تتحول أميركا من دور المراقب والشاهد إلى دور الشريك، وأن تتخلى عن انحيازها لإسرائيل، وإعطاء دور أكبر وفاعل للرباعية الدولية، وأن تحصل مسبقا على اعتراف دولي (أو أميركي) بالدولة الفلسطينية بحدود الرابع من حزيران، وأن تسير هذه المفاوضات وفق جدول أعمال معين وبسقف زمني محدد ومنضبط لرقابة دولية، وحتى لو تعذر الاستجابة لهذه الشروط على الفلسطينيين التمسك بموقف حازم. وحينها يمكن التوجه لخيار كسر المفاوضات المباشرة الثنائية، والتحول إلى مسار المفاوضات الجماعية للحل الإقليمي الشامل على قاعدة المبادرة العربية للسلام. وفي حال فشل هذه الخيارات، يمكن اللجوء لتكتيكات بديلة؛ مثل خيار التدويل، ووضع المجتمع الدولي أمام مسؤولياته القانونية والسياسية لإيجاد حل للقضية الفلسطينية، يفضي إلى إنهاء الاحتلال، كما حدث في ناميبيا وكوسوفو. أو التوجه لمجلس الأمن (أو الجمعية العامة) لاستصدار قرار الاعتراف بالدولة الفلسطينية وإلزام إسرائيل بإنهاء الاحتلال، أو عقد مؤتمر دولي لإقرار حل وتسوية عادلة على قاعدة الشرعية الدولية، أو حل السلطة الوطنية في إطار خطة منسقة مع جامعة الدول العربية والرباعية الدولية والتوجه إلى الأمم المتحدة بطلب وضع الأراضي الفلسطينية تحت نظام الوصاية الدولية.
هذه خيارات ممكنة، ويجب أن تدعم ببرامج سياسية عملية لإخراجها من هامش التهديد إلى حيز الفعل إذا لزم الأمر، ولكن قبل ذلك، وبالتوازي معه، المطلوب من الفصائل الوطنية، والتي هي الآن أمام فرصة تاريخية، تصويب مسارها، وتبني برامج كفاحية مقاومة ترتقي إلى مستوى الأحداث، ثم عليها أن تنجز المصالحة الوطنية وإنهاء الانقسام، ثم التوجه مباشرة لعقد المجلس الوطني الفلسطيني، والبدء فورا بعمليات إصلاح وتجديد لهياكل منظمة التحرير الفلسطينية، أي بمعنى مختصر، ترتيب البيت الفلسطيني وتمتين الجبهة الداخلية. أما بالنسبة لخيار المقاومة؛ فينبغي مراجعته وتقييمه، باعتبار أنه لا يوجد أسلوب كفاحي مقدس، فكل الأساليب والأدوات خاضعة للنقاش، على قاعدة أن الوظيفة الأساسية للمقاومة هي تحويل التضحيات إلى منجزات.
وهذا ممكن في حالة اختيار الأدوات والمواقيت والأشكال النضالية بفهم وطني واع، بحيث يتم تحييد الآلة العسكرية الإسرائيلية وحرمان العدو من ميزة التفوق العسكري. وأن تُمارس المقاومة بالشكل الذي يؤدي إلى تقوية المجتمع الفلسطيني، لا إضعافه (كما جرى في غزة مثلا)، أي أن الفلسطينيين بحاجة إلى مقاومة توجع إسرائيل أكثر مما توجعهم، مقاومة تسهم في تعزيز الانشقاقات والتناقضات داخل المجتمع الإسرائيلي، لا أن تؤدي إلى تعزيز تماسكه وتوحده والتفافه حول قيادته المتطرفة.
مع الأخذ بعين الاعتبار أن المقاومة وحدها لا تكفي، بل أنها قد تجر نتائج سلبية مدمرة، كما أن المفاوضات وحدها خيار فاشلا، ما يعني أن الخيار الأمثل هو المزاوجة بين المقاومة والمفاوضات، لأنه فقط في هذه الحالة سيخدم هذان المساران بعضهما البعض.
بالاستناد إلى هذه الرؤية، يمكن صياغة برنامج كفاحي وطني متكامل، يقوم كل طرف بدوره ضمن إستراتيجية شاملة، وهنا على «فتح» و»حماس» والفصائل الأخرى والسلطة ومنظمات المجتمع المدني والجماهير أن تضطلع بدورها التاريخي، بتصعيد المقاومة الشعبية وتعميمها، مع استمرار المقاطعة الاقتصادية، إلى جانب حملة منظمة في المحاكم الدولية لمحاسبة إسرائيل، وهجمة دبلوماسية وإعلامية في المحافل والمنظمات الدولية، وصولا إلى محاصرة إسرائيل وعزلها، كما حدث لنظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا.