تنسجم تماماً مع طبيعته، جاءت نتائج الانتخابات في الولايات المتحدة الأميركية، مخالفة لكلّ التوقعات، سواء التي اعتمدت على استطلاعات الرأي، أو التي جاءت في قراءات تحليلية من قبل صحافيين أو خبراء، أو سياسيين.
فعلاً هو فوز تاريخي، يضع الرئيس دونالد ترامب في خانة متفرّدة تقريباً، حيث إنّه مفوّض بحصد الأصوات الشعبية، وعبر المجمع الانتخابي بفارق كبير عن منافسته الديمقراطية كامالا هاريس.
الجمهوريون يسيطرون على الإدارة، وعلى غرفتي الكونغرس، وأيضاً على القضاء، وتلك رؤوس مؤسّسات الدولة العميقة، ما يمنحه حرّية واسعة في اتخاذ القرارات ورسم السياسات الخارجية والداخلية للولايات المتحدة.
يدرك ترامب أنّ الولايات المتحدة في حالة تراجع إزاء مكانتها الدولية، وأمام احتدام المنافسة لتغيير النظام العالمي الذي تسيطر عليه، وأنّ التطوّرات الدولية تتجه نحو تغيير ذلك النظام إلى متعدّد الأقطاب.
يتعهّد ترامب بأن يُعيد للولايات المتحدة مكانتها من القوة والنفوذ، ووقف تدهور تلك المكانة التي تسبّبت بها سياسات الإدارة الديمقراطية.
ولذلك فإنّه يتعهّد بوقف وإنهاء الحروب في أوكرانيا، والشرق الأوسط، تلك الحروب التي تستنفد طاقات وإمكانيات الولايات المتحدة، وتسيء لسمعتها، ومكانتها، وتعرّض مصالحها للخطر.
وقف حروب الاستنزاف التي تخوضها الولايات المتحدة هو السبيل لادّخار إمكانياتها المالية، والتسليحية، وتمكّن الإدارة استناداً إلى رؤية ترامب وتجربته من أن يُشرك حلفاءه الأوروبيين في دفع فواتير الصراعات، ودفع المنافسين تكاليف إضافية سواء في مجال الاستيراد أو التصدير، ما يؤدّي إلى تحسين الاقتصاد الأميركي، ومستوى معيشة المواطن.
إذا كان كل ذلك ممكن التحقيق، فإنّ السؤال الأساسي يتصل بالشرق الأوسط، ومدى التزامه بتفوُّق دولة الاحتلال، وضمان أمنها واستقرارها وهيمنتها عليه، كأداة متعدّدة لتحقيق المصالح الأميركية.
في الواقع، فإنّ التجربة مع ترامب خلال السنوات الأربع السابقة لوجوده في البيت الأبيض، كانت مريرة ومُرّة بالنسبة للقضية الفلسطينية فهو صاحب «صفقة القرن»، ونقل سفارة بلاده إلى القدس، والاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على الجولان السوري المحتلّ، وهو القائل إنّ مساحة إسرائيل صغيرة، ولا بدّ من توسيعها.
لقد لاحظنا، كيف يتبجّح في الحديث عن أنّه من دون أدنى جهد أو ثمن ابتزّ دول الخليج، وأنّه راعي «السلام الإبراهيمي». ولكن الدنيا تغيّرت، بين عامي 2016 و2024، فالحرب الإبادية الدائرة منذ أكثر من 400 يوم، وتداعياتها، بالتأكيد ستفرض على الإدارة الجديدة، إعادة التفكير.
الإدارة الديمقراطية بقيادة جو بايدن، خاضت الحرب منذ يومها الأوّل، إلى جانب دولة الاحتلال، وحشدت إلى جانبها، أيضاً، عديد الدول الأوروبية ولم تدّخر وسعاً في تقديم كل ما يلزم لتحقيق الأهداف المشتركة.
لكن كل هذا الحشد، فشل حتى الآن في تحقيق الأهداف الكبرى والصغرى وهو فشل مسجّل على كل من خاضوا الحرب التي باتت تهدّد وجود دولة الاحتلال، في المؤكّد أنها فقدت هيبتها، وادّعاءاتها بالقدرة على حماية ما تسمّى «الدول السنّية المعتدلة»، وبالتالي فقدت الأمل في أن تكون على رأس أو في قلب «تحالف سنّي أميركي» في المنطقة.
إسرائيل مهشّمة بسبب هذه الحرب الإجرامية، داخلياً، حيث تتجنّب حرباً طويلة وحيث تقدّم خسائر فادحة، فضلاً عن تعمّق الانقسامات في نسيجها الداخلي.
وخارجياً وبسبب حرب الإبادة العنصرية، التي تمارسها، وتحدّيها للأمم المتحدة، والمجتمع الدولي، ومؤسسات العدالة الدولية، وقيم حقوق الإنسان، فقد أصبحت دولة منبوذة، وربّما تتعرّض لإجراءات وعقوبات لا تستطيع الولايات المتحدة منع وقوعها.
كلّ هذا صحيح، ولكنه لا يعني بالضرورة أنّ ترامب سيغيّر رؤية الولايات المتحدة وتحالفها المتين مع الدولة العبرية، ومن غير المتوقّع أن يتّخذ قرارات، أو إجراءات بحقها، فضلاً عن أنّه من غير المتوقّع، أن يعود عن القرارات التي اتخذها خلال السنوات الأربع السابقة، من وجوده على رأس البيت الأبيض أو أن يسمح بهزيمتها.
ترامب شخصية غير متوقّعة، ولكن محذور أن يقع البعض في المراهنة على سياسة جديدة مختلفة، فهو لا يزال يُعيد أسباب الحرب التدميرية الدائرة، إلى إيران. إن كان الأمر كذلك، فإنّه قد يشجّع دولة الاحتلال على ضرب المنشآت النووية الإيرانية، وربّما المنشآت النفطية والاقتصادية باعتبار أنّ ذلك من شأنه أن يؤدّي إلى استئصال الورم وفق اعتقاد نتنياهو.
القادة العرب تهافتوا على تهنئة ترامب، من دون أيّ حذرٍ أو تحفُّظ، وأبدوا استعداداً للتعاون وتعزيز العلاقات الإستراتيجية مع الولايات المتحدة.
لا أحد يستطيع أن يقدر كيف ولأي هدف يتطلّع عديد الزعماء العرب، إلى تعزيز التعاون والعلاقات الإستراتيجية مع الولايات المتحدة، وهل أنهم كانوا مقصّرين في ذلك مع إدارة بايدن؟
اليوم تنعقد في الرياض القمة العربية الإسلامية الثانية بعد القمة التي انعقدت في التاريخ ذاته العام 2023. حينذاك أصدرت القمة قرارات مهمة كانت توحي بأنّ المجتمعين، قد امتلكوا الإرادة، والاستعداد، لكسر الحصار عن غزّة، ووقف الحرب، وتأمين تدفُّق المساعدات، غير أنّ شيئاً من هذا لم يحصل بل وقع العكس من ذلك.
ماذا سيصدر عن زعماء القمة العربية الإسلامية، في ظل عدم اليقين إزاء ما ستفعله إدارة ترامب حين يدخل البيت الأبيض بعد نحو شهرين.
لقد تعوّد الفلسطينيون على سياسة التخاذل، وانفصال الأفعال عن الأقوال إزاء القرارات التي يتّخذها الزعماء، بل أكثر من ذلك تدلّل التجربة على أنّ الممارسة العملية للسياسة، تأتي على عكس ما يتمّ اتخاذه من قرارات، وإطلاقه من تصريحات هي أقرب إلى الوعود العرقوبية.
لعلّ الأهمّ في كل المشهد مرتبط بما يجري في الميدان، وما يجري هو الذي سيفرض على كل الفرقاء السلوك الذي عليهم أن يعتمدوه بمن في ذلك ترامب وإدارته الجديدة.