من دون حرب، ومن دون قتال ربحت أميركا وإلى جانبها دولة الاحتلال الحرب كلّها، وليس مجرّد جولة من جولاتها.
ربحت بالانقلاب الذي نفّذه الجيش السوري على النظام، وسلّم مفاتيح الدولة من دون أيّ قتال لجماعات الإرهاب التي لم يكن دورها سوى التغطية على حقيقة هذا الانقلاب.
لم يكن «السلطان» ليسمح لإرهابي واحد من «دواعشه الجُدد» بالتوجّه إلى حلب لولا أنّه كان يعرف، وقد تلقّى الضوء الأخضر بأنّ كلّ شيء جاهز، وكلّ الطرق مفتوحة، وبأنّ الجيش «أتمّ» كلّ خططه لتسليم المدن والمواقع، مدينة بعد مدينة، وموقعاً تلو الآخر.
كانت المغامرة التركية ستكون قاتلة، وكان يمكن أن تكلّف أردوغان نظامه السياسي لو أنّ فرقة واحدة، فرقة واحدة فقط، قررت أن تتصدّى لـ»دواعشه الجُدد»، وقرّرت أن تقاتل كما كانت تقاتل طوال السنوات التي قاتلت فيها.
نحن في الواقع كنّا طوال العشرة أيّام الماضية أمام «مسرحية» تحمل كلّ عناصر الدراما السياسية، وكلّ المشاهد الهزلية، وكذلك المأساوية، إضافة إلى عناصر «مُعقّدة» من فصول الملهاة والإثارة والتشويق، دون أن نهمل الموسيقى التصويرية التي عُزفت بتنسيق أوركسترالي من محطّات «الجزيرة» القطرية وأخواتها.
ولكن المأساة، والطّامة الكبرى ليست هنا فقط.
المأساة هي أنّ يربح التحالف الأميركي الصهيوني هذه الحرب على مستوى الإقليم كلّه على وقع «حرب»ٍ لم يخضها أحد، وعلى وقع عملية أمنية واستخبارية منسّقة مع «الموساد» الإسرائيلي، ومع المخابرات المركزية الأميركية، ومع أجهزة استخبارات «غربية» وعربية، وليس على وقع قتال أو مقاومة أو صراع من أيّ نوعٍ كان.
والمأساة أن يصورها هذا الانقلاب وكأنه من «دهاء» السياسة التركية و»حِنكتها»، مع أنّ الدور التركي فيها لم يتعدّ دور المشرف العام، أو المنسّق المكلّف الإخراج المسرحي.
لكن المرجّح هنا هو أن يحصل النظام التركي، هو وقطر على جائزة ترضية لوقف مؤقّت لإطلاق النار في قطاع غزّة، وربما عقد صفقة برعاية أميركية إسرائيلية لضمان تخلّي قوات «قسد» عن حُلم إقامة كانتون كردي في سورية، لقطع الطريق «مؤقّتا» على تمدّد فكرة الحُلم الكردي الأكبر في جنوب تركيا، وإنعاش «المسألة» الكردية في العراق، وقبل ذلك في إيران.
الصدمة كانت صاعقة لإيران عندما أبلغت رسمياً من الأسد ــ على ما يبدو ــ وبعد «الانسحاب» من حماة بأنّ الجيش السوري لديه قرار بتسليم السلطة لـ»جماعة الجولاني»، وبأنّ أميركا وإسرائيل، وبعض العرب يرفضون تسليم السلطة للجيش نفسه، وهذا هو الانقلاب الأوّل في التاريخ الحديث الذي يقوم به جيش نظامي، ويسلّم السلطة لميليشيات كانت حتى عدّة أيّام فقط «مصنّفة من الجماعات الإرهابية من قبل الأمم المتحدة، ومن قبل القائمين على هذا الانقلاب».
لهذا أُسقط الأمر في أيدي إيران، وانتفت إمكانية دعم ومساندة النظام، وكذلك الأمر نفسه هو ما عطّل أي دور حقيقي لروسيا في التصدّي للهجوم الذي صوّره الإعلام، وكأنّه الحرب التي «حسمت» المسألة، لحرب لم تقم أصلاً، ولم يخضها أحد على الإطلاق. ولو قاتل الجيش السوري كلّه أو أيّ جزء فاعل منه، لعدّة أيّام فقط لتمّ بكلّ تأكيد إبادة جماعات الإرهاب عن بكرة أبيها، ولدخل الإقليم في حرب إقليمية طاحنة كان يستحيل على المحور الأميركي الصهيوني أن يربحها، ولكان الإقليم كلّه قد اتخذ وجهة معاكسة للوجهة التي أخذها منذ سقوط النظام في أيدي جماعات الإرهاب نيابة عن التحالف الصهيوني الجديد في المنطقة.
كما أنّ الأمر قد أسقط في أيدي «حزب الله» اللبناني الذي كان بمقدوره مع جماعة «الحشد الشعبي» العراقية أن يحمي ظهر الجيش السوري بكل سهولة ويُسر، ولما صعب عليه زجّ «قواته الخاصة» في معركة إفشال الخطّة الصهيونية في سورية.
وحتى حركة حماس نفسها وجدت نفسها منذ الأيّام الأولى لهذه «الحرب» في وضع حرج.
فهي من ناحية لا تستطيع التخلّي الكامل عن «إخوانيتها»، ولا «القطع» مع نظام أردوغان، رغم معرفتها بالدور الذي يقوم به، وهي من ناحية ثانية تشعر أنّ الأمور لم تعد تسير في مصلحتها، وأنّ أحداً في العالمين العربي والإسلامي كليهما من هو مستعد للوقوف ضد دولة الاحتلال لوقف عدوانه الوحشي على القطاع.
يستطيع كل الذين كانوا يعادون النظام السوري لأسباب كثيرة، ومنها ما كان فعلاً يتصل بالمظالم الكثيرة التي كان يقرّ بها الجميع، ولا يستطيع أن ينكرها عليهم أحد أن «يحتفلوا» بسقوطه، ولنقل إنّ هذا من حقهم في النهاية، ولكن على كلّ سوري، وطني وغيور على وطنه، وعلى شعبه أن يدرك أنّ الخطة الصهيونية في سورية ليست سوى بداية لمشروع أكبر وأخطر من لحظة الاحتفال.
ما قد يراه بعض السوريّين، أو الكثيرون منهم بأنّها «نجاح» للثورة على «نظام الأسد» عليهم أن يدركوا أنّ هذه «الثورة» قادها المستعمر، وهي ليست ثورة ضد هذا المستعمر، وهي ليست بأيّ حالٍ، ولا تشكّل سياقاً من أيّ نوعٍ كان لثورات الشعب السوري في الـ25، ولا في معارك الاستقلال والجلاء، ولا حتى في سياق الاستقلال الوطني وحق تقرير المصير، وبناء الدولة الوطنية أو الحق في التنمية المستقلّة.
ومعيار الوطنية والديمقراطية لأيّ ثورة، أو انقلاب، أو تمرّد وطني ضد الفساد أو الاستبداد أو الديكتاتورية هو أهدافها وأدواتها، ومصالح المنخرطين فيها.
فهل نحن أمام أهداف وطنية حقيقية، وأمام أدوات تغيير ديمقراطية، أو أمام استقلال وسيادة وطنية، أو أيّ شيء من هذا القبيل كلّه؟ الحقيقة هي المخطط الأميركي الصهيوني الذي فشل فشلاً مدوّياً في الحرب على غزّة باستثناء الإبادة والإجرام، وفشل فشلاً أكبر في لبنان، وقبل بوقف العدوان على لبنان تحت طائلة دمار جيشه الفاشي إذا ما أراد استكمال الحرب الإبادية والإجرامية، إضافة إلى دمار اقتصاده ومجتمعه كلّه.. الحقيقة أنّ هذا المخطّط لن يقبل في ظلّ هذا «الإنجاز» الذي حقّقه في سورية بأقل من إحكام القبضة الكاملة على البلاد والعباد، أو تقسيم الوطن السوري إلى دويلات عدّة.
خطّة تقسيم الوطن السوري هي البديل الإستراتيجي التي سيخرجها التحالف الصهيوني الأميركي في الوقت القريب القادم والمناسب.
وهي خطّة كتبنا عنها قبل عدّة سنوات، ونتقاسم وفق فهمنا لها الرأي مع الكثيرين من مفكّري ومثقّفي وكتّاب ونخب الأمّة كلّها، من محيطها إلى خليجها.
تقوم هذه الخطة على إعادة ضبط معادلة الدولة مع الأمّة والشعب ليس إلى تقسيمات «سايكس ــ بيكو»، أي القطعة الجغرافية، وإنّما إعادة تشكيل وهندسة معادلة الدولة ــ الأمّة وفق مفهوم الطائفة أو العرق، أو الدين، أو المذهب أو «الإثنية» الخاصّة.
في هذه الحالة سنكون أمام دول عرقية الطابع مثل الدولة الكردية، أو دولة مذهبية كدولةٍ سنّية في سورية، أو علوية، أو دولة سنّية، وأخرى شيعية في العراق، وربّما نكون أمام دولة مسيحية في لبنان، ونكون أمام دولة درزية في سورية ولبنان وامتدادها عَبر الجولان وجبل العرب إلى الامتداد الدرزي في فلسطين.
وقد يلجأ «الغرب» عند درجة معيّنة من احتدام الصراع السياسي والاجتماعي داخل البلدان العربية الأخرى في الخليج، أو ليبيا أو الجزائر أو المغرب إلى نفس هذه المخطّطات وفق خصوصيات كلّ دولة.
إذا استكمل المشروع الصهيوني إلى نهايته ستكون الدولة «اليهودية» دولة طبيعية على غرار الإقليم كلّه الذي سيعاد بناء الدولة فيه على أسس ما فوق، أو ما تحت وطنية «لا فرق»، وحينها تكون الدولة اليهودية الصهيونية ليست دولة طبيعية فقط، وإنّما دولة مهيمنة بحكم عوامل التفوّق والدعم الأميركي و»الغربي» لها.
والعرب الغافلة والنائمة والمنوّمة سيدركون عمّا قريب أنّ أنظمتهم كلّها الخاضع والخانع، بعد المدافع والممانع كلّهم على هذا الطريق، ومن يعتقد أنّه خارج دائرة الاستهداف فهو أكثر من يستحقّ الشفقة من بين كلّ هؤلاء العربان.
في القريب العاجل سنبدأ بقراءة، أو محاولة قراءة انعكاس سقوط النظام السوري على فلسطين، الشعب والقضية والمستقبل.