يا لهذا الفراغ ولا اعتراض على مشيئة القدر أن يغادرنا الرجلان: ياسر عرفات وصائب عريقات. يصادف يوم ١٠-١١ الذكرى السنوية الخامسة لرحيل الدكتور صائب عريقات، رحيله جسداً وبقاء مدرسته الفكرية، وذكرى رحيل القائد الرمز الشهيد ياسر عرفات ١١- ١١ الذكرى الحادية والعشرين؛ وكأن التاريخ أراد أن يعلّمنا أن الأجساد ترحل لكن الأفكار والروح عصية عن الموت، فالأثر باقٍ، والأعمال شاهدة. في هذه الذكرى نرى مدرسة الفعل الوطني الفلسطيني ولادة ومستدامة، وشاء القدر أن يكون تشرين الثاني شهر إعلان وثيقة الاستقلال، هو الشهر الذي يحمل رمزية اختبار الوعي السياسي الفلسطيني، نوفمبر ليس فقط لتقويم الذاكرة؛ إنه شهر المراجعة الوطنية لمعنى السياسة، معنى القيادة ومعنى وحدتنا في هذه اللحظة التي يُعاد فيها تعريف الحق الفلسطيني في الوجود والحرية والسيادة.
بينما يتعرض فيها شعب فلسطين لإبادة مكشوفة، جرائم وتهجير وتجويع وضم وعنصرية ومشروع استيطاني كولونيالي في إطار احتلال عسكري هدفه تقويض الحق الفلسطيني في تقرير المصير، نعرج على مدرسة أبو عمار كمرجعية سياسية وأخلاقية "ثورتنا ليست عنفاً، ثورتنا فعل شعب يريد أن يعيش حراً على ترابه". هذه ليست جملة عابرة رددها الختيار، بل جوهر تعريف النضال الفلسطيني نفسه: معركة حياة لا معركة موت. عرفات أسس المدرسة الوطنية على ثلاث قواعد: وحدة الشعب، وحدة القرار، ووحدة السردية بغصن الزيتون والثورة معاً، لأن كليهما جزء من معادلة واحدة: لا سلام بلا عدالة.
أما صائب عريقات؛ مدرسة الدبلوماسية الفلسطينية، كان يقول "السلام ليس إعلان نوايا، السلام مسار محاسبة وإرادة حتى إنهاء الاحتلال". صائب عريقات فهم باكراً أن السياسة علم، وليست مجرد ممارسة أو رد فعل، وأن إنكار الحقائق لا يلغي وجودها. وما يميز مدرسة صائب تحديداً أنها مدرسة البراغماتية الواقعية، استوعب خطر الفراغ، آمن أن النضال متعدد الأدوات، وأن الدبلوماسية ليست خلف الجبهة، بل جبهة موازية بأدوات القانون والرواية وبناء التحالفات العالمية، وأن فلسطين أكبر منا جميعاً، وأن المفاوضات أداة وليست هدفاً بذاتها. حدد الأولويات والمصالح الوطنية العليا، واضعاً ملف الأسرى في أعلى الرتب. بالنسبة له، غزة وأريحا لم تكن نهاية الطريق، بل بداية حلم تقرير المصير حتى القدس. ورأى في استراتيجية التدويل و"تسونامي الاعتراف بدولة فلسطين" فرصة سياسية وقانونية : لمحاصرة المجرمين من الاحتلال وبناء مؤسسات الدولة؛ دولة تُبنى بالتراكم المعرفي والقانوني والمؤسسي حتى يتحقق الاستقلال والكرامة والسيادة وإعادة فلسطين لخارطة الجغرافيا.
وفي كتابه "انتصار الحياة لا يعني هزيمة الموت" عبّر صائب عن منظوره الفلسفي والسياسي في عبارة موجزة، واصفاً طريقة تفكيره العملي: "كانت لدي عادة أثناء الكتابة أو أثناء مواجهتي لأي مشكلة أن أقوم باستدعاء شخصيات فكرية أثرت العلوم الإنسانية... ميكافيلي، فولتير، مونتيسكيو، هوبز، ومن المفكرين المسلمين ابن خلدون، الفارابي، الغزالي، ابن رشد… كنت أسألهم: ماذا تفعلون لو كنتم مكاني؟"، هذا الاستدعاء للفكر الكلاسيكي والشرقي لم يكن رفاهية؛ بل أداة قرار تربط بين الإنسانية والسياسة وتحوّل المعرفة إلى سلاح نضالي.
وتعلمنا مدرسة عريقات الواقعية البراغماتية أن تعريف القائد السياسي الفلسطيني الوطني يجعل من الشعب نقطة ارتكاز ومرجعية ويقدم أوراق اعتماده أولاً وأخيراً للشهداء والجرحى وللأسرى. كما قال عريقات: "كل ما نقوم به كأبناء حركة فتح لن يرقى إلى ظفر شهيد، ولا أنة جريح ولا ليلة يقضيها أسير خلف قضبان الاحتلال". علمنا أن الأفكار أقوى من كل الرصاص، وأن الأفكار عابرة للقارات والحدود. علمنا أن فلسطين حق لثلاثة عشر مليوناً حول القارات ومخيمات اللجوء. علمتنا هذه المدرسة ضرورة الالتفاف حول القرار الوطني الفلسطيني ومنظمة التحرير، وأن كل سياسي ودبلوماسي وفاعل مدني مطالب بخدمة فلسطين كل حسب تخصصه وأدواته ومسؤوليته الوطنية.
رحيل الرجلين أثر بلا شك على الذاكرة الوطنية، إلا أن الذكرى تعلمنا أن المشروع الوطني ليس مشروع أشخاص، وأن وحدة القرار ليست خياراً تكتيكياً بل شرط وجودي، وأن النضال الفلسطيني متعدد الأدوات؛ مقاومة سياسية وقانونية وشعبية ودبلوماسية، وكلها شرعية ومتكاملة. وأن السياسة علم يحتاج بناء مؤسسات وشرعية متجددة وقدرة على اتخاذ القرار الوطني الموحد بعيداً عن الشخصنة وتضارب الميول والارتجال الخطابي.
اليوم، في زمن الإبادة، تصبح إرادة الحياة شكل المقاومة الأعلى. وفي نوفمبر، شهر الرجال وشهر الحقيقة: الاستقلال ليس وثيقة تُتلى في الإذاعات المدرسية، بل مسار يبنى بوعي، بمعرفة، بمؤسسة، وبقرار وطني واحد.
الوفاء لعرفات وعريقات ليس في البكاء على الرحيل ولا في أدب الرثاء، إحياء الذكرى يتجسد بتحويل إرثَيهما إلى عمل وطني ودبلوماسي وقانوني يترجم إلى سيادة فعلية وكرامة نفسية ومادية للشعب الفلسطيني، وهذا يتطلب استصلاح الروح الفتحاوية. هذا هو الامتحان والالتزام: أن نحمي الحق بالعلم وبالعمل، أن نرتب أولوياتنا الوطنية، ملف الاسرى واللاجئين والأرض والشباب والوحدة الوطنية، وأن نجعل من "فلسطين أكبر منا جميعاً" مبدأ عمل يومي، وأن يكون الشعب هو المرجعية لأي شرعية. فقط بهذا يمكن أن يصبح الوفاء للرجلين ليس احتفاء تذكارياً عاطفياً، بل يصبح مشروعاً عملياً وطنياً ينتصر للحياة والحرية والدولة التي نستحق.
