بقلم: رجب أبو سرية

ترامب يمارس مهامه قبل دخوله البيت الأبيض

رجب أبو سرية
حجم الخط

رام الله - وكالة خبر

على الأرجح أن دونالد ترامب الرئيس الأميركي المنتخب، الذي سيتسلم مقاليد الحكم رسمياً بعد نحو شهر من الآن، سيكون مختلفاً عما كان عليه في ولايته السابقة، التي سبقت ولاية جو بايدن الوحيدة، وذلك لا يعود فقط للتقليد الرئاسي الأميركي، حيث يتحرر عادة الرؤساء الأميركيون في ولايتهم الثانية من حسابات الانتخابات، لأنهم لن يخوضوها شخصياً مرة أخرى، ولكن لأن العالم خلال الأربع سنوات التي مضت شهد أحداثاً ووقائع مهمة للغاية، أثبتت بأن المجتمع البشري، أو دول العالم بأغلبها، لم تعد تقبل بالنظام العالمي الذي تلا النظام ثنائي القطبية الذي ساد خلال الحرب الباردة، وقد حاولت ادارة بايدن أن تقطع الطريق على التحولات الكونية التي تقود لتغيير ذلك النظام، بفتح جبهة الحرب على روسيا في أوكرانيا، ثم بإدارة الحرب مباشرة في الشرق الأوسط، بعد أن كان ترامب نفسه قد حاول أن يفعل شيئاً قبل بايدن، حين بدأ عهده في ولايته الأولى بمحاولة اخضاع كوريا الشمالية.

ولكن ترامب سرعان ما تراجع عن تلك المحاولة، وفضل أن ينعش الاقتصاد الأميركي لمواجهة المنافس الأخطر، وهو الصين التي تنافس أميركا اقتصادياً، وليس عسكرياً، من خلال فرض الأتاوات والضرائب على الحلفاء، وحتى قبل أن يدخل البيت الأبيض، التزم بوقف الحرب بين روسيا وأوكرانيا، وطلب من بنيامين نتنياهو بشكل صريح وواضح أن يوقف الحرب في غزة حتى ذلك التاريخ، ويبدو أن ترامب وطاقم ادارته المقبلة بَدءاً في ممارسة مهامهما، حتى قبل دخول البيت الأبيض رسمياً، وذلك لأن ادارة بايدن الضعيفة تظهر ضعفاً مضاعفاً، بعد نتيجة الانتخابات الأخيرة، حيث كان بايدن سبباً مؤكداً لخسارة الديموقراطيين الانتخابات باتباعه سياسة مترددة، وفق حسابات غير دقيقة، أظهرت الفشل الأميركي في كل الجبهات، أو في كل الملفات، حيث لم يعرف بايدن كيف يتعامل مع اسرائيل، بحيث يقود هو نتنياهو وفق ما يريد وليس العكس.

والغريب أن كل ما تحقق من مكاسب سياسية أميركية، وقد اقتصر الأمر على الشرق الأوسط، لم ينفع الديموقراطيين في شيء، ذلك أن وقف اطلاق النار في لبنان قد تحقق بعد الانتخابات، كذلك الحدث الأهم والجلل، وهو اسقاط النظام السوري، حيث بإسقاطه تم توجيه ضربة مزدوجة لكل من ايران بقطع الطريق على سلسلة وصولها الى لبنان مروراً بالعراق وسورية، ولروسيا التي حققت نفوذاً دولياً بوجودها في سورية وحمايتها لنظام بشار الأسد منذ عام 2015، أي منذ عشر سنوات، وهي وإن كانت صمدت في وجه أهداف الحرب الغربية عليها في أوكرانيا، إلا أنها ما زالت لم تحسم الحرب لصالحها بسحق أوكرانيا، وهي بذلك تستنزف سياسيا وماليا، الغريب أن تحقيق هذه المكاسب جاء بعد الانتخابات الأميركية، أي أنه يصب في جيب ترامب حتى قبل أن يدخل البيت الأبيض، بما يسهل عليه إدارة شؤون الشرق الأوسط خلال ولايته، ولكن يبقى أمامه الأهم وهو إدارة شؤون العالم.

كانت المعضلة الأميركية التي ظهرت خلال حرب الإبادة الاسرائيلية على غزة، تتمثل في الموقف الصعب الذي وجدت أميركا نفسها فيه، وهو أن تفاضل بين الإبقاء على نظامها العالمي، وحماية إسرائيل، ودهاء بايدن والديموقراطيين حقق انجازاً على هذا الصعيد حين اتبع سياسة ذر الرماد في العيون، من خلال إجراء مفاوضات خادعة حول صفقة تبادل المحتجزين الإسرائيليين بوقف الحرب، ما تسبب في خفض حدة الاحتجاج الشعبي العالمي، وحتى مستوى الضغط الداخلي الإسرائيلي، الذي قاده أهالي أولئك المحتجزين، لكن ذلك تسبب بالمقابل في رفع وتيرة جبهات الإسناد، ثم جاء نقل مركز ثقل الحرب من غزة الى لبنان، ليبعد الأنظار قليلاً عن مواصلة اسرائيل حرب الإبادة في غزة، ثم ومنذ اسقاط نظام الأسد، والاعلام الذي كان يشكل أحد جبهات الضغط، انتقل بدوره الى سورية لمتابعة «الأكشن الإعلامي»، مع العلم بأن اسرائيل لم تتوقف حتى اللحظة وبعد أكثر من 14 شهراً عن ارتكاب مجازر الحرب بقتل ما معدله 50 شهيداً فلسطينياً يومياً، وجرح ضعفهم، بل وتنفيذ حرب تطهير كاملة في شمال قطاع غزة.

لكن اميركا بجمهورييها وديموقراطييها تدرك بأن الصراع الكوني لا يمكن لطرف أن يكسبه أو يخسره بالرأي العام الدولي، مهما بلغت أهميته في التأثير على المواقف الرسمية، وسياسات الدول، لذلك فإن فشل أميركا في إسقاط فلاديمير بوتين، وأميركا/بايدن لم يكن لديها وهم بتفكيك روسيا أو احتلالها، وهي الدولة النووية الأهم في العالم، ولكن كان لديها وهم احتوائها، بتغيير رئيسها، كما سبق لها وفعلت مع أوكرانيا نفسها، ذلك الفشل يجبر أميركا/ترامب على التفكير ملياً بجدوى استمرار تلك الحرب، وأميركا تضع الصين وليس روسيا كعدو أول، وكما سبق لترامب وأن فعل في الولاية الأولى، سيذهب الى محاولة الوقوف في وجه الصين اقتصادياً، لذلك قام بمنح آيلون ماسك وظيفة خفض حجم المصروفات الحكومية، بمكافحة ما يسميه النظام البيروقراطي، وعلى الأغلب لن يتبع سياسة بايدن بمحاولة التأثير السلبي على الصين بإشغالها بملف تايوان، ولا بالاستمرار باشغال روسيا بملف أوكرانيا، لكن السؤال هو هل ستصل تلك السياسة الى حد الإقرار بنظام عالمي متوازن، أو متعدد الأقطاب، أو قائم على الشراكة، أي هل ستكف أميركا عن محاولة احتواء المنافسين، إما بالقوة العسكرية، أو عبر الحروب الاقتصادية؟

ما هو شبه مؤكد أن ترامب سيتبع سياسة مختلفة، وذلك اعتماداً على أن أميركا ليست أكبر قوة عسكرية في العالم وحسب، بل هي أكبر اقتصاد عالمي أيضا، وأنها باتت تعتقد بأن ادارة النظام العالمي من قبلها، يترتب عليه أن «يدفع» الآخرون مقابل هذه الادارة، وهؤلاء الآخرون هم الحلفاء الأغنياء، المستفيدون من ذلك النظام الى جانب الأميركيين أنفسهم، وقد بات واضحاً خلال الحرب الإسرائيلية التي ما زالت مستمرة حتى اليوم، بأن إسرائيل تحاول ملء ما تتركه أميركا من فراغ وراءها، هذا في حال تراجعت عن القيام بدورها كزعيم وحيد للعالم، وبالتحديد، ظهرت إسرائيل كدولة تقاتل في الشرق الأوسط ليس لتحقيق النفوذ الأميركي، ولا تخوض الحرب الأميركية، بل على العكس تريد من أميركا أن تحارب عنها، وذلك لتحقيق أحلام المتطرفين العنصريين الفاشيين الإسرائيليين بإقامة دولة إسرائيل اللاهوتية، من الفرات الى النيل.

هنا قد لا تظهر الفواصل بين الطرفين واضحة تماماً، فترامب المرشح، سعى بقوة للناخبين اليهود، حين تحدث كثيراً عن أنه يستغرب كيف يصوت يهودي لخصومه الديموقراطيين «الذين يسعون لتدمير اسرائيل بحل الدولتين»، وما الى ذلك، لكنه في النهاية فاز بأصوات الناخبين المسلمين الذين انتخبوه بعد اتفاق معه، واستناداً لمعاقبة الديموقراطيين وبايدن وكامالا هاريس على مشاركتهم في حرب الإبادة، ويقيناً لو أن إسقاط الأسد بترتيب أميركي/تركي قد تم قبل الانتخابات مثلاً، لربما تغيرت النتيجة وفازت هاريس، وترامب الذي نظر بعين العطف على مساحة اسرائيل الجغرافية الضيقة، بما شجع بتسلئيل سموتريتش على انتظار دخوله البيت الأبيض ليسمح له باستيطان قطاع غزة، هو نفسه الذي رد على سؤال صحافي، إن كان يثق بنتنياهو، بقوله بأنه لا يثق بأحد.

ولعل أخطر ما قاله ترامب، بعد أن بات على بعد أيام من البيت البيض، بأنه يريد أن يرى وقفاً للحرب، ولكن مع تحقيق اسرائيل للنصر، وأنه يعد الشرق الأوسط بالجحيم، في حال بقي الرهائن محتجزين الى حين دخوله البيت الابيض، ونتنياهو حقق أهم رهاناته بالإبقاء على الحرب حتى فوز ترامب، وهو يحاول أن يخدع ترامب بكونه من تسبب له بالفوز، حين أفشل كل سياسات بايدن بما في ذلك انجاز صفقة تبادل الرهائن بوقف الحرب، قبل يوم الانتخابات الرئاسية، لكن ترامب حتى وهو يملأ غرف البيت الأبيض بأكثر الرجال انحيازاً لإسرائيل، لن يكون كما كان حاله في الولاية الأولى، وهو يعلم جيداً بأن نتنياهو قاتل لاستمرار الحرب من أجل بقائه هو شخصياً، وليس من أجل إفشال بايدن وهاريس وفوز ترامب.

وترامب يبدأ ممارسة مهامه الرئاسية استناداً لضعف بايدن الجلي، قبل أسابيع من دخوله الرسمي للبيت الأبيض، وها هو يدير المفاوضات مع الإسرائيليين، بعد أن أدارت إدارة بايدن فعلياً التفاوض مع لبنان، وبعد أن دفعت صفقة غزة، وأدخلت فيها تركيا كمكافأة على دورها في سورية، وذلك بمتابعة ما تفعله إسرائيل في سورية بهز كتفيه، ثم الأهم متابعة ما يجري من تفاوض حول غزة، دون إعلانات صحافية، فيما يبقى أهم هدف لنتنياهو وهو جر أميركا للحرب مع إيران، أخطر ما يواجه الرجلين في علاقتهما القادمة.