إذا كان من درس لما يجري في المنطقة من متغيرات، سيما ما يتصل بالحالة السورية، بالنسبة لنا كفلسطينيين، فإنه يتمثل في خطر تآكل شرعية النظام السياسي واحتمال انهياره. معلوم أن الشرعية في الحالة الفلسطينية سبق واقتصرت على الشرعية الثورية التي قادتها منظمة التحرير الفلسطينية حتى إنشاء أول سلطة فلسطينية عام 1994، دون إنجاز التحرر الوطني، حيث دخلت المنظمة ومعها السلطة الوطنية مرحلة لم يكن بالإمكان إضفاء الشرعية على دور مؤسساتها سوى بشرعية الانتخابات.
جاء الانقسام السياسي إزاء التسوية ليعزز الصراع على التمثيل بين فرقاء المشهد الفلسطيني حول شرعية المقاومة التي ظلت تتبناها قوى رفض ومعارضة أوسلو، وشرعية وحدانية السلطة ومن خلفها منظمة التحرير التي فرضت حضورها الإقليمي والدولي مستندة إلى إرث الشرعية الثورية، وشرعية انتخابات المجلس التشريعي، وإن كانت جزئية، حيث اقتصرت على الضفة والقطاع، سيما بعد أن تعاظمت مكانة السلطة على حساب مكانة المنظمة، بما مس بدرجة كبيرة بشرعية تمثيلها. كما أن فشل مسار التسوية، أحدث هزة كبيرة في شرعية المنظمة، ناهيك عما اعتراها من سوء إدارة واستشراء حالات الفساد، الأمر الذي ساهم في مزيد من تقلص القاعدة الاجتماعية للسلطة ومكانتها ومن خلفها منظمة التحرير .
لم تفلح محاولات القيادة الفلسطينية للحفاظ على هذه المكانة، رغم عودتها لبعض أشكال العمل العسكري خلال الانتفاضة الثانية، والتي في الواقع أفضت إلى تغيير موازين القوى الداخلية لغير صالح المنظمة والسلطة، دون تمكنها من إحداث أي تغيير في ميزان القوى مع الاحتلال، وذلك يعود لأسباب داخلية جوهرها ارتباك استراتيجية عمل القيادة الفلسطينية بين خياري تحسين شروط التسوية، وبين أدوات التحرر الوطني في الحالة القائمة باعتباره يرتبط عضوياً بالقدرة على تعزيز صمود الناس من خلال البناء الديمقراطي لمؤسسات قادرة على تنفيذ هذه المهمة المركزية. هذا بالإضافة للمتغيرات الدولية التي اتسمت بمرحلة الحرب الكونية على الإرهاب، ونجاح شارون في تقديم سياسات الاحتلال كمكون رئيسي في تلك الحرب.
أسباب أخرى عديدة، لا يتسع لها هذا المقال، أحدثت أثراً استراتيجياً في تآكل الشرعية وامتداد ذلك لمنظمة التحرير نفسها، سيما بعد نجاح حركة حماس في الانتخابات التشريعية الثانية 2006، والعودة لاستخدام شرعية المنظمة في مواجهة شرعية الانتخابات والحكومة التي نجمت عنها، وما أدت إليه من انقسام سياسي مزمن ما زال يُلقي بتبعاته على المستقبل والمصير الفلسطيني .
وقد جاءت حرب الإبادة على قطاع غزة بعد انفجار السابع من أكتوبر في سياق عدوانية مشروع التصفية والضم، دون استبعاد كون الانفجار ذاته حمل في طياته استمرار الصراع على الشرعية، في محاولة لحسمه لصالح شرعية المقاومة. وقد ظهر ذلك جلياً في موقف السلطة من تداعيات هذا الانفجار، وإصرارها على رفض موقف الإجماع الشعبي الذي عبر عنه إجماع الفصائل في إعلان بكين لجهة حسم هذا الصراع على الشرعية، بالعودة إلى شرعية التوافق والوحدة من خلال حكومة توافق انتقالية لحين إجراء الانتخابات، وكذلك تعزيز شرعية الإنجاز من خلال العمل على إعادة الأمل لشعبنا، وخاصة باضطلاع الحكومة بمسؤوليتها في الإسهام بوقف حرب الإبادة، والتفرغ للإغاثة والبدء في إعمار القطاع الذي دُمِّر عن بكرة أبيه، طبعاً بالإضافة إلى توفير كل ما من شأنه تعزيز صمود شعبنا في الضفة الغربية، بما فيها القدس، والتي تتعرض لحرب استيطانية غير مسبوقة لتصفية القضية الفلسطينية.
في هذا السياق لا يمكن النظر لما يجري في مدن شمال الضفة الغربية، بمعزل عن الحرب الاستيطانية المتصاعدة، ولا عن استمرار حرب الإبادة في قطاع غزة، ولا بالتأكيد عن واقع السلطة الفلسطينية واضمحلال قاعدتها الاجتماعية، وعجزها عن الدفاع عن مصالح المواطن الفلسطيني، وقدرته على البقاء في مواجهة المشروع الصهيوني، وأطماعه التوسعية التي باتت تتجاوز الجغرافية الفلسطينية .
التجربة الفلسطينية منذ نشأة السلطة الفلسطينية حتى اليوم، وبفعل الإصرار على اللهاث نحو تسوية دون فعل جاد لتغيير موازين القوى التي تمكن من إنهاء الاحتلال . ومن خلال هذا المنظور يمكن القول إن عدم الاستفادة من انفجار أكتوبر ذاته أضاع فرصة تعديل هذا التوازن، سيما لجهة ما ترافق معها من انتفاضة كونية وسمت إسرائيل بدولة إبادة جماعية بحق الشعب الفلسطيني .
هذه التجربة ذاتها تؤكد أنه لا يمكن السيطرة على حالة المقاومة من خلال وسمها "بالفوضى والخروج على القانون أو العمل لصالح جهات خارجية". فذلك ليس سوى تعبير عن إفلاس تام، والإصرار على المضي بحالة التفرد والانفراد بالقرار الوطني ، دون العودة لمتطلبات الوفاق الوطني، والتحمل المشترك لمسؤولية صون المصير الوطني من التحديات الوجودية التي يمر بها الشعب الفلسطيني ومصير قضيته الوطنية.
الحلول الأمنية، والإصرار على المضي بسياسة استرضاء الاحتلال والإدارة الأمريكية، لن تنتج سوى المزيد من عزلة السلطة الوطنية، وتبديد ما تبقى لها من مشروعية. والأخطر أنها ستساهم في مزيد من تمزق النسيجين المجتمعي والوطني، وتدفع باتجاه خطر الانزلاق إلى حرب أهلية تغذيها إسرائيل سواء للخلاص من السلطة، أو إعادة احتلال الضفة الغربية لتسهيل عمليتي الضم والتهجير كما تسعى إليهما حكومة تل أبيب .
إن ما يجري في جنين ينذر بأسوأ المخاطر على المصير الوطني، ما لم يتم التوقف الفوري عن محاولات الحسم بالقوة الأمنية، فالأمر يستدعي أولاً وقبل كل شئ العودة للإرادة الشعبية، من خلال مراجعة مسؤولة من كل الأطراف، وهذا لن يتحقق سوى بالعودة لشرعية التوافق الانتقالي على تحمل المسؤولية الجماعية لصون المصير الوطني عبر مؤسسات الوطنية الجامعة التي تضم الجميع في إطار منظمة التحرير الفلسطينية، تنفيذاً لإجماع الفصائل الفلسطينية الذي تضمنه نصاً وروحاً إعلان بكين.