فرحت أم الأيتام أخيراً بأنّ الله مَنَّ عليها بأولاد الحلال الذين سيقفون بجانب أولادها ويُرسلوا إليهم الأموال التي ستسترهم في حرب لم تترك لهم مجالاً للعيش من جديد، فالجميع تكالب عليهم من عرب ويهود وحتى من بني جلدتهم الفلسطينيين.
توجهت أم الأيتام بعد أنّ أخبرها المتبرع بإرسال مبلغ يقدر بـ400 دولار إلى أحد مكاتب الصرافة وسط قطاع غزّة، ذهبت وكلها أمل أنّ تشتري لأبنائها الطعام والملابس التي يحتاجونها في ليالي الشتاء الباردة، وما أنّ وصلت حتى أخبرها المسؤول عن هذا المكتب، بأنَّ نسبة العمولة التي تم اقتطاعها عن هذا المبلغ تقدر بـ30% أيّ أنّها ستستلم المبلغ مقطوع بأكثر من 300 شيكل، وبعد جدال عميق وتوسل منها له بأنّ لا يقم باقتطاع المبلغ المرسل للأيتام، تقول: "بعد ما توسلت إليه وصرخت وأقسمت عليه بأولاده أنّ يترك فلوس الأيتام دون اقتطاع، قال لها إنَّ الموضوع ليس من طرفه بل من تاجر العملة الذي يبيع لهم السيولة".
وأضافت في حديثها لمراسلة وكالة "خبر": "هذه الفلوس لأولادي الأيتام ما صدقت يوم خبرني قريبي الله فاتحها عليه في تونس، إنه حيرسل لأولادي مبلغ كل شهر يسترهم، لكن تجار الموت والمال يتقاسموا هذه الفلوس، والنسبة الي أخدوها مش قليلة وبتسد معي خانة كبيرة، وهما استغلوا احتياج الناس وعدم وجود سيولة في البلد وقالوا يذبحوا فينا شوية".
قصة أم الأيتام لم تكن الوحيدة ولن تكون الأخيرة في سلسلة من معاناة المواطنين الذين يتفنن معهم التجار في كيفية استغلالهم وسلب حقوقهم، فمعاناة المواطنين تزداد يوماً بعد يوم، وأموال هؤلاء التجار تزداد على حساب الشعب المكلوم.
نسبة العمولة على الأموال المحولة أو حتى مَنْ يُريد استلام راتبه من مكاتب الصرافة فاقت الخيال فانطلقت المناشدات وحتى المبادرين الذين لهم متابعين بالآلاف أصبحت تلك المناشدات تُطالب المسؤولين وسلطة النقد برام الله بضرورة تجميد حسابات هؤلاء التجار وأصحاب مكاتب الصرافة المتعاونين معهم، وهو ما دفع فعلاً الجهة الرقابية والمسؤولة بالسلطة لإطلاق رابط للتبليغ عن هؤلاء التجار وتجميد بعض حسابات الآخرين وبالفعل بدأت حملة ملاحقتهم واختبأ الآخرين وامتنعوا عن الرد على زبائنهم خوفاً من أنّ يكون ذلك فخاً لهم من قبل الجهات المسؤولة، ولكنهم رغم ذلك لم يتعظوا ولم يتراجعوا عن استغلال الناس.
وكالة "خبر" بحثت في أمر مكاتب الصرافة والعاملين فيها وكيف يغرد كل مكتب على ليلاه دون أنّ تُفصح عن اسمها لكي تستطيع معرفة الأمر بوضوح.
مكتب "ز" في جنوب قطاع غزّة تحدثت معه مراسلة "خبر"، في البداية كان متردداً في الحديث حتى لا نكون من الذين يوقعونهم في الفخ ويبلغون عنهم، لكِنها طمأنتهم بأنّ الأمر خاص بها، وبعد يومين قام بالرد على سؤالها عن النسبة أو العمولة التي ستخصم من مبلغ قدره 500 دولار أمريكي، فأجاب: "على المئة دينار نعطيكي 355 شيكلاً".
وقال حين سألته عن نسبة الخصم الكبيرة وخصوصاً أنّ صرف الدينار الأردني في السوق يبلغ 495 شيكلاً أيّ أنّ المبلغ بالنهاية على أقل تقدير سيخصم منه نحو 500 شيكل: "أنا لا آكل مال حرام في بطني أو أدخله على جيبي ونسبة الخصم نحن لا ذنب لنا بها كل الحكاية أن تاجر العملة هو من يُحدد سعر الصرف ويتحكم بنا وبالناس مستغلاً قلة السيولة النقدية في الأسواق واحتياج الناس لها فيعطينا على كل 100دينار أردني 360 شيكلاً وأنا أبيعها بدوري بأقل بـ5 شواكل، هذا كل ما في الأمر".
أما صاحب مكتب "ع" للصرافة فأرجع سبب ارتفاع النسبة لأكثر من 30%، فقال: "التجار لموا السيولة من البلد والبنوك مسكرة وفش فيها سيولة، وكل تعاملهم صار على التطبيق البنكي، الرواتب بيتم صرفها ع التطبيق واحنا لازم نشتغل ونتضطر نشتري بغالي ونبيع بأغلى،كل القصة عند التجار".
"الي مش عاجبه الكحل لا يتكحل"
بصراحة مطلقة وبعيدة عن أيّ كلام مكتوب، مثلما حدث مع سابقه عبر تطبيق الواتساب، وحين زرنا مكتبه قال: "إلي مش عاجبه الكحل لا يتكحل،هي وقفت علينا،البلد كلها ضايعة والتجار تحكموا فينا وبالسلع والسيولة كلها حتى صاروا يحاربونا، احنا ورانا بيوت مفتوحة وأطفال بدهم ياكلوا من وين نطعميهم إذا قعدنا عن الشغل، بتوصلنا تحويلات من ناس لناس واحنا في هادي الشغلانة إلنا سنين طويلة وزباينا معروفين، وعارفين إنه التغيير إلي صار احنا ملناش ذنب فيه وبياخدوا قيمة التحويلات مخصومة من 20-30%حسب ظروف الخصم".
"يعني هي وقفت على السيولة"
إخلاص التي ضاقت ذرعاً من هذا الحال، بدأت حديثها مع مراسلة "خبر"، بـ "حسبي الله ونعم الوكيل في الي وقع البلد بهادي الطريقة، لا أمن ولا أمان واستغلال وسرقات ونهب وقتل وغلاء مش طبيعي ومعونات للحبايب وحرب شغالة علينا من سنة ونص ومش كاينة تخلص ،للأسف الكل بيدبح فينا، والكل بيتفنن كيف يستغل المواطن الغلبان، الي ما بيصدق كيف ممكن حدا يساعده من برا البلد بأي مبلغ يعينه على مصيبته بهيك وضع ولما بييجي بده يصرفه بينصدم إنه بيخصموا أقل شيء ربع المبلغ، وأحياناً بيلف المكاتب مكتب مكتب إنه يلاقي سعر عمولة أقل؛ لكن للأسف ما بيلاقي ويضطر الكل للموافقة على سرقته من قبل صاحب المكتب بخصم الربع على الأقل".
تجربة شخصية
"ولاء عبد الله"، كانت إحدى اللواتي وقعت في شرك استغلال أصحاب الصرافة، تقول: "بعثت لي أختي التي تعيش في إسبانيا 1000 دولار أمريكي لكي أوزعهم على أخواتي الثلاثة وأنا بالتساوي، وبعد أنّ تواصلت مع أحد مكاتب الصرافة أخبرني بأنَّ نسبة العمولة وصلت 22% وافقت مضطرة على العمولة ولكن حدث طارئ عند أختي ولم تستطع تحويل المبلغ إلا بعد أسبوعين من حديثي مع صاحب المكتب وبالفعل أرسلت مبلغ الـ1000 دولار وحين توجهت لاستلامه تفاجأت بأنَّ النسبة وصلت لأكثر من 32% فضجت وتملكني الغضب وثرت على صاحب المكتب واتهمته بالسرقة والاستغلال، وهو بدوره لم يسكت وقال لي إنّ كانت نسبة الخصم لا تعجبني فلأذهب لأيّ مكتب آخر وأخبرني أيضاً أنني اتفقت معه قبل أسبوعين على نسبة وهذه النسبة ارتفعت في المدة المذكورة وهو لا ذنب له بذلك".
وتابعت: "بالفعل لم أصرف المبلغ من طرفه، وبدأت بالبحث عن مكتب آخر للصرف وبعد رحلة بحث طويلة اكتشفت أنّ جميع المكاتب تأخذ نفس النسبة المذكورة فاضطررت لسحب المبلغ بعد أنّ كان نصيبي منه 250 دولار، أصبح 170 دولار".
"التطبيق البنكي هل هو حل أم فخ آخر"
نظراً لقلة السيولة النقدية في غزّة في ظل إغلاق المعابر والبنوك، واحتكار التجار للسيولة وبيعها لمن يريد بأضعافها، اضطرت البنوك الفلسطينية العاملة لإيداع رواتب موظفيها عبر التطبيق البنكي، لكي لا تحرمهم من حقهم في العيش والحياة، ولكن المشكلة لم تُحل بل بقيت كما هي حتى بعد أنّ أصبحت رواتب الموظفين على التطبيق البنكي، فإذا أراد الموظف أنّ يشتري سلعة ما من إحدى المحال التي تتعامل مع التطبيق البنكي فإنّه إما يقوم برفع ثمن تلك السلعة والترويج لنفسه أنه يبيع بضاعته كما هي على التطبيق دون عمولة وبذلك يكسب زبائن ويجمع أموال أكثر، وإما يقوم بوضع نسبة معينة لمن أراد أنّ يشتري منه بضاعة أو سلع ويكون زبونه على دراية بما يأخذ، وفي الحالتين هو احتيال على المواطن واستغلال لوضعه السيء في ظل حرب لا ترحم".
محمد موسى، يقول: "يعني مش مكفيهم أنّ البضائع أسعارها مرتفعة وصلت إلى 10 أضعاف، بدهم يبيعوا لنا عبر التطبيق بـ 3 أضعاف، يعني الي راتبه 1500 شيكل مابيشتري غرضين ثلاثة إلا بيكون المبلغ خلص والراتب طار".
"التطبيق تحايل من نوع آخر"
أما سمير، فاكتفى بالقول: "الكل محتال والشاطر الي بده يسرقنا بحيلة جديدة وللأسف المواطن هو الضحية، ضحية جشع التجار والصرافين والبياعين وكل شخص فاتح مصلحة عامة والمواطن هو المستهدف".
وأكمل في حديثه مع مراسلة وكالة "خبر": "يعني كان في محل صغير في مواصي خانيونس عامل يافطة كبيرة بيقول فيها البيع عبر التطبيق البنكي بدون عمولة، فاستبشرت خيراً فيه وقلت أخيراً حشتري اللازم بدون استغلال وتوجهت له وبعد سؤالي عن الأسعار لاحظت أنّ الأسعار بتزيد في غالبية السلع بحوالي 5 شيكل، ولأني مطلع على الأسعار رفضت الشراء منه وغادرت المكان، وراتبي حتى الآن في التطبيق البنكي ولم أتمكن من سحبه".
يُشار إلى أنّه في الآونة الأخيرة وبعد شكاوى المواطنين من ارتفاع نسبة العمولة على الصرف، ضجت مواقع التواصل الاجتماعي بمنشورات تدعو الجهات المختصة لملاحقة هؤلاء المستغلين وتجميد حساباتهم، فقام المؤثرون والناشطون برفع شعار لا لاستغلال مكاتب الصرافة، وبالفعل لاقت الحملة نجاحاً لافتاً، فقامت سلطة النقد والمسؤولين في الحكومة بملاحقة هؤلاء التجار وتجميد حساباتهم وإطلاق رقم خاص للتبليغ عن كل من تسول له نفسه باستغلال الناس، وهذا ما دعا بعض أصحاب المكاتب بأنّ يكونوا حذرين أكثر في التعامل مع الزبائن لكي لا يقعوا في فخ التبليغ.
وكالة "خبر" رصدت ردود الأفعال لهذه الحملة وارتفاع نسبة العمولة وكيف يتدبر الناس أمرهم وخصوصاً أنَّ اعتمادهم على السيولة النقدية يُعد شرياناً لا يمكن قطعه، وكانت كالتالي: