ماذا بعد هدنة سورية؟

هاني عوكل
حجم الخط

شكل اتفاق وقف العمليات القتالية في سورية بين الولايات المتحدة الأميركية وروسيا يوم الثاني والعشرين من شباط الجاري، خطوة إيجابية على صعيد وقف إطلاق النار بين فرقاء النزاع السوري والتمهيد لاستكمال المسار السياسي في جنيف.

الاتفاق الأميركي- الروسي جاء لتثبيت وقف إطلاق النار بعد مساعٍ حثيثة وتحركات قام بها وزيري خارجية البلدين على التوالي جون كيري وسيرجي لافروف، من أجل ضمان عدم تصعيد النزاع السوري إلى مستويات خطيرة من شأنها أن تشعل فتيل المنطقة وتتوسع من حرب بالوكالة إلى إقليمية أو حتى دولية.

مضمون الاتفاق نص على أن تتوقف العمليات القتالية بين القوات الحكومية السورية وقوات المعارضة المعتدلة، يستثنى من ذلك تنظيمي "داعش" وجبهة النصرة الإرهابيين، وبما يسمح للقوات الجوية الروسية والقوات الحكومية السورية مواصلة دكها أوكار هذين التنظيمين.

الولايات المتحدة الأميركية رحبت بحذر بهذا الاتفاق، واعتبر الرئيس باراك أوباما أن من الحكمة عدم الإفراط في التوقعات، في حين حذر وزير خارجيته كيري من أن عدم التجاوب مع اتفاق وقف إطلاق النار وانهياره وانعكاس ذلك على العملية السياسية في سورية، من شأنه أن يقود واشنطن لاتخاذ إجراءات أخرى والولوج في تطبيق خطة بديلة.

كيري لم يشر صراحةً إلى طبيعة هذه الخطة إذا لم يتمكن فرقاء النزاع السوري من وقف النزاع، وتصريحه هذا موجه لكل من روسيا والحكومة السورية بأن عليهما أن تبذلا الجهد المطلوب للالتزام بوقف إطلاق النار والذهاب نحو المسار السياسي للتوافق حول صيغة حكومة انتقالية تلبي مواقف مختلف الأطراف. أيضاً يفهم من تصريحات كيري دعوته لمختلف أطراف المعارضة بأهمية الالتزام بوقف إطلاق النار، خصوصاً وأنها كانت قد عبرت عن مخاوفها من هذا الاتفاق، واعتبرت أنه يصب في صالح نظام الرئيس السوري بشار الأسد.

أغلب الظن أن وزير الخارجية الأميركي الذي اتهمت بلاده في أكثر من مناسبة بأن ليس لديها استراتيجية للنزاع السوري، نقول إن كيري الذي يعكس الموقف الأميركي الرسمي، يرغب هذه المرة في التأكيد على وقف إطلاق النار لانتهاز الفرصة نحو استكمال المسار السياسي في جنيف والحصول على ثمن لصالح المعارضة السورية.

المعنى أن الولايات المتحدة الأميركية شعرت بأن روسيا والقوات الحكومية السورية باتت قريبة من إمكانية إحداث تغييرات في ميزان القوة العسكري لصالحها، لذلك أصرت واشنطن على أهمية تثبيت هدنة لوقف إطلاق النار تستهدف في الأساس مواصلة المسار السياسي. وربما تعتقد الإدارة الأميركية أن الذهاب إلى جنيف والتفاوض حول مستقبل سورية، قد يمكن المعارضة المعتدلة من الحصول على أثمان، أفضل من حسم النزاع العسكري على الأرض وعدم الحصول على شيء، ولذلك ربط كيري وجود خطة بديلة بفشل المسار السياسي.

أما الموقف الروسي فيبدو في هذا الإطار أنه المسيطر على زمام الأمور، خصوصاً وأن هناك تواجد روسي قوي في سورية، والقيادة الروسية تتعامل بحزم مع كل من يحاول استفزازها داخل وخارج التراب السوري، لكنها أيضاً تشتغل على أساس خذ وأعط، فهي لا ترغب في الإقفال التام على الموضوع السوري، في ظل حالة التجاذبات والتشاحن الدولي حول هذا الملف المعقد.

على هذا الأساس وافقت موسكو على اتفاق لوقف إطلاق النار، كان قد فشل في اتفاق ميونخ الذي عقد في الثاني عشر من شباط الجاري، ونتج عنه الموافقة على وقف إطلاق النار في سورية خلال أسبوع، لكن ذلك لم يحدث بسبب تقدم القوات الحكومية السورية وسيطرتها على مناطق وعزمها السيطرة التامة على مدينة حلب الواقعة شمال سورية.

القصد من ذلك أن روسيا التي لم يكن يهمها كثيراً تأكيد وقف إطلاق النار بعيد اتفاق ميونخ، أعطت ضوءاً أخضر للقوات الحكومية السورية بالاستعجال في السيطرة على عدد كبير من المناطق الخاضعة للمعارضة المعتدلة مع الوفرة في القصف الروسي، كون أن موسكو تدرك بأن عليها أن تكون مرنة إلى حد ما في مرحلة من المراحل. وحين تهيأت الظروف واستفادت القوات الحكومية السورية من عامل الوقت في كسب مناطق حيوية وانتزاعها من المعارضة، أصبح ممكناً على القيادة الروسية أن تقول نعم لاتفاق يستهدف وقف إطلاق النار والمضي قدماً في المسار السياسي. في إطار كل ذلك يبدو أن الاتفاق الأميركي- الروسي حول وقف إطلاق النار سيكون هذه المرة أكثر جدية من أي مرة سابقة، فهذان الطرفان ضغطا بقوة على طرفي النزاع السوري من أجل الالتزام بوقف العمليات العسكرية، لكن يمكن القول إنه لن يكون هناك تهدئة بنسبة مائة بالمائة. أي أن اتفاق وقف إطلاق النار سيدخل حيز التنفيذ، إنما لن تكون هناك تهدئة شاملة كاملة، خصوصاً وأن هناك أطرافا كثيرة من المعارضة في سورية، من بينها "داعش" وجبهة النصرة التي ستظل تحت وابل الرصاص واستهداف التحالف الدولي والروسي والسوري.

أضف إلى ذلك أن القوى الكبرى المؤثرة في النزاع السوري اتفقت على وقف إطلاق النار، لكنها لم تتفق على تحديد من هي التنظيمات الإرهابية، وهذه معضلة ستلقي بظلالها على الواقع الميداني، كما أن هناك تنظيمات وتيارات ستسعى إلى إفشال اتفاق وقف إطلاق النار.

كما أن الحكومة السورية وكذلك الحال المعارضة المعتدلة وافقت على وقف إطلاق النار، وللعلم فإن هذا الاتفاق جاء ملزماً لهما من فوق، أي من قبل واشنطن وموسكو اللتين تمارسان ضغطاً لإنجاح خطة وقف العمليات القتالية، وهذا يشكل تحدياً لفريقي النزاع السوري كون أن قرار وقف إطلاق النار قد لا يشكل رغبةً ذاتيةً عندهما أو عند أحدهما على الأقل.

إذن سيكون من الصعب جداً تقديم وصفة لحالة النزاع السوري في هذا الوقت تحديداً، إلا أن الأيام المقبلة قادرة على تفكيك هذا اللغز، ذلك أن الالتزام بوقف إطلاق النار وهو خاضع لعامل الوقت، سيؤدي في نهاية الأمر إلى استكمال المسار السياسي، لأن أساس فشل جنيف تركز في اشتراط مشاركة المعارضة بضرورة إيصال المساعدات الإنسانية ووقف القتال. وعلى الأرجح أن تكون هناك جولة ثانية للمفاوضات في جنيف، لكن ينبغي التأكيد هنا على أن الموقف الرسمي السوري اليوم ليس هو ذاته بالأمس، فاليوم يشعر النظام السوري أنه قريب من تحقيق مكتسبات عسكرية تمكنه من الاستئساد في المفاوضات وتغيير قواعد اللعبة.

يبدو أن هذه الهدنة بمثابة الفرصة لإنقاذ ماء الوجه ومحاولة لإيجاد أرضية مناسبة تقوم إما على فرضية "لا غالب ولا مغلوب"، أو "شبه غالب وشبه مغلوب"، ففي ضوء المعطيات الراهنة لا تريد واشنطن أن تستقر سورية على "غالب ومغلوب".