الإضراب الذي يخوضه المعلمون يكاد يكون غير مسبوق كممارسة نقابية مطلبية، إنْ لجهة استطالة مدته، وإنْ لتمسك المعلمين بكامل مطالبهم، وإن لانخراط أغلب المعلمين فيه وفي فعالياته. الطابع العام الطاغي الذي قام عليه الإضراب من بداياته وما زال، هو طابع نضال نقابي ديموقراطي سلمي، ومسؤول في نفس الوقت، ولم تنجح الحسابات السياسية والتنظيمية حتى الآن، أن تفرض لنفسها حيزاً هاماً او بارزاً في حركة الإضراب ومطالبه. ان الحفاظ على هذا الطابع هو التحدي الأول للإضراب ونجاحه، ولاستمرار التعاطف الجماهيري معه.
الإضراب يقوم على قاعدة الوطنية الصادقة الممتدة عبر سنوات طوال من مساهمة المعلمين المجيدة في النضال الوطني بكل مجالاته، وفي مواجهة الاحتلال وسياساته الاحتلالية بشكل عام والتجهيلية بشكل خاص. وعلى قاعدة دور ومساهمة المعلمين واتحادهم في المؤسسات الوطنية الجامعة (المجلس الوطني والمجلس المركزي). دون الدخول في التفاصيل، فان مطالب المعلمين تبدو في مجملها محقة. وهي مطالب تفرضها ضرورات معيشية واجتماعية يقاسي منها المعلمون، كما تفرضها ضرورة الحفاظ على كرامة المعلم وصورته.
واهم دليل على أحقيتها هو الإقرار المبدئي بمجمل تلك المطالب كما تعلن عن ذلك وزارة التربية والتعليم والحكومة. لكن هذا الإقرار المبدئي بأحقية المطالب لا يتناسب مع إجراءات غير مقبولة نفذتها الحكومة حين استعانت بالشرطة لإعاقة حركة المضربين في محاولة لمنع تجمهرهم السلمي. وكما يبدو فان ضيق ذات اليد الذي تعيشها الحكومة هو ما يمنع الاستجابة الفورية لمطالب المعلمين.
هذا ما يعيد الأمر الى صندوق كل الشرور، الى مربع الاحتلال وسياسات الخنق المالي التي يمارسها ضد السلطة وحكومتها، كما كل سياسات الخنق الأخرى ضد الناس. ويدخل هنا أيضاً شحّ التمويل للسلطة من الأنظمة العربية كما أقرتها لها القمم العربية بسب الظروف العامة التي تعيشها معظم الأنظمة العربية.
اذا كان الأمر كذلك، فان درجة أعلى من التقدير لهذا الظرف تصبح مطلوبة، ومطلوب معها درجة أعلى من التعامل الإيجابي مع محاولات ومقترحات لتدوير الزوايا، والقبول بتأجيل بعض المطالب الأقل إلحاحاً لحين ميسرة، حتى لو احتاج هذا الأمر الى تطمينات او ضمانات من جهات مسؤولة كهيئة الرئاسة الفلسطينية او اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير. ان إضراب المعلمين، واستطالته وتواصله يفتح الباب لعدد من الأسئلة الهامة: السؤال الأول والاهم، هو سؤال التلاميذ وحقهم المقدس في التعليم، ثم الأسئلة التفصيلية التابعة حول مستقبلهم وامتحاناتهم، وحول امتحان التوجيهي ووقت الفراغ الخطير، وغيرها من الأسئلة. هذا السؤال، هو برسم المعلمين واتحادهم النقابي بالدرجة الأولى، ثم برسم وزارة التربية والتعليم. مطلوب ان تتفتق الأذهان، بمسؤولية عالية، عن حلول وبدائل واقعية، توائم ما بين مطالب المعلمين وإضرابهم وبين حق الطلبة المقدس بالتعليم ومعالجة الأسئلة التفصيلية المذكورة.
السؤال الثاني، ما يثيره الخلاف العلني بين أغلبية المعلمين وبين قيادة اتحادهم النقابي. الخلاف ظهر إلى العلن بوضوح، وتمثل بشكل رئيسي في رفض غالبية المعلمين المضربين الاتفاقات التي تصل إليها الأمانة العامة للاتحاد مع الوزارة والحكومة وتدعو إلى إنهاء الإضراب والعودة إلى التدريس على أساسها، كما تمثل بالتشكيك في الأمانة العامة للاتحاد - وبالذات بشخص الأمين العام - وفي مواقفهم ودوافعهم، وفي تمثيلهم لجمهرة المعلمين، الخلاف بهذه الطريقة يضع علامات استفهام حول الحياة الداخلية في الاتحاد ومدى حيويتها وديمقراطيتها. الوضع الطبيعي، ان يتم نقاش الخلاف في وجهات النظر وحول المواقف داخل الهيئات القيادية الوسيطة المفترض وجودها في الاتحاد والمنتخبة من المؤتمر العام، وان يحسم الموقف لصالح اي منها داخل هذه الهيئات وبشكل ديمقراطي، وان ينضبط الكل للموقف الذي تقرره الأغلبية. هل لاتحاد المعلمين هيئة قيادية وسيطة؟ واذا كانت موجودة فأين دورها؟ السؤال الثالث، هو حول دور منظمة التحرير، ودور دائرة التنظيمات الشعبية فيها.
لم يكن هناك أي دور لهذه الدائرة في مجرى أحداث إضراب المعلمين، ولا في الخلاف بين أعضاء الاتحاد مع قيادته، ولم يكن هناك دور للتنظيمات او "التشريعي" ولا لقوى المجتمع المدني. ليس مفهوماً لماذا وضع الأمين العام والأمانة العامة للاتحاد استقالتهم بتصرف اللجنة المركزية لحركة فتح ومفوضية المنظمات الشعبية فيها أولاً ( حسب وكالة معاً للأنباء)، وليس بتصرف منظمة التحرير والدائرة المختصة فيها مثلا؟ ولماذا هم مضطرون أصلا لوضع استقالتهم بتصرف اي جهة؟ التصرف النقابي الطبيعي والسليم هو تقديم الاستقالة فقط الى الهيئة القيادية الوسيطة لاتحاد المعلمين نفسه لتقرر بشأنها. السؤال الرابع، هو حول وضع وحال كل الاتحادات النقابية والشعبية الفلسطينية ودورها وفاعليتها الوطنية أولاً، ثم النقابية الديمقراطية، وحول انتظام وحيوية حياتها الداخلية، وانتهاجها لسنن التجديد والتغيير الدوري الديمقراطي في هيئاتها. هنا، الوضع والحال لا يسران.
وهنا أيضا، وبأكثر شمولية يغيب دور ومبادرة منظمة التحرير ودائرتها المعنية. إن مبادرة مفوضية المنظمات الشعبية في حركة فتح كما اعلنها الأخ توفيق الطيراوي الداعية إلى تفعيل الاتحادات الشعبية والنقابية بدءاً من إنهاء الحالة غير الطبيعية بوجود اتحادين عماليين هي مبادرة إيجابية طيبة. وحتى تعطي هذه المبادرة مفاعيلها ونتائجها المرجوّة فمن الطبيعي ان تتحول من مبادرة تنظيم، مع الإقرار له بوضعه وثقله المميزين، الى مبادرة وطنية شاملة تكتسب مضامينها وآلياتها على هذا الأساس.
الأسئلة التي يثيرها إضراب المعلمين، تصب كلها في مجرى الضرورة الملحة لتجليس أوضاعنا الداخلية.