للعام الثاني يأتي رمضان على غزة وهي تئِن وتنزف وآلة الحرب الإسرائيلية لا تبالي حرمة الشهر الفضيل، ولا شيء يتغير سوى للأسوأ، بيوت مدمرة وأجساد نصفها منهك والآخر ما زال مدفوناً تحت الركام ينادي الضمائر الحية أن تنظر إليه وتسارع لإخراجه من تحت بيته وتكرمه بقبر يليق بمسلم قُتل من عدو كافر متعطش للدماء.
جاء رمضان وجيوب الغزيين فارغة و80% منهم يعيشون في خيام تفتقر لأدنى مقومات الحياة، وكم شاهدنا معاناتهم على مدار عام ونصف، وكالة خبر الفلسطينية كانت شاهدة وفي الميدان ترصد معاناة المواطنين في الشتاء وقت أنّ جرفت الرياح والأمطار ومياه البحر خيامهم، وفي الصيف حين كان الجو يفتقد حتى للأكسجين لكي يتنفسوه فتراهم يبحثون عن المياه ليشعروا بشيء من البرودة وهم يلقونه على أجسادهم الهزيلة.
جدير ذكره أنّه بعد أنّ عاد النازحين لأماكن سكناهم لم تنتهي المعاناة بل بدأت وزادت، فبيوتهم مُدمرة وشوارعهم غارقة بمياه الصرف الصحي وأماكنهم تفتقر للمياه النظيفة، فيظلوا يبحثون عن سيارات المياه الحلوة ويقومون بتعبئة ما عندهم من أواني وبراميل خاصة للشرب ولاستخدامها اليومي.
في كل سنة وقبل السابع من أكتوبر تعج الشوارع قبل حلول الشهر الكريم بأسبوع أو ما يزيد فتراها تتزين بأجمل الفوانيس والزينة الرمضانية، وتتهيأ المحال التجارية لعرض منتجات رمضان المعتادة كالمربى والحلاوة وقمر الدين والشراب بجميع أشكاله وألوانه وأطعمته اللذيذة والقطايف والحلويات الرمضانية الأخرى، أما البيوت فتُعلق الزينة والأضواء الجميلة على أسطح المنازل والحارات وفي البيوت، ويتحضر الناس لعمل أجواء رمضانية في بيوتهم ويبتاعون ما يحتاجونه للسحور والإفطار ويسهرون في الليلة الأولى قبل حلول رمضان حتى وقت السحور ليوقظ المسحراتي أو "أبوطبلة كما يناديه الغزيون" الناس النائمة للسحور.
كل ما ذُكر سابقاً لم يعد موجوداً الآن في غزة إلا في أماكن حيوية وقليلة جداً، فالبيوت أصبحت مهدمة واستُشْهِد أصحابها، والمحال دمرت بالكامل والشوارع المفتوحة المزينة أُغلقت وامتلأت بركام البيوت والمنشآت.
غصة تسكن قلب المواطن في غزة وهو يترقب ما ستؤول إليه الأوضاع في الأيام القادمة ولسان حاله يتساءل هل ستستمر للحرب وتقضي على مَنْ تبقى منهم أم ستنتهي وتُحقن دماء المسلمين ويتعايشون مع ظروفهم القاهرة، وكيف ستكون باقي أيام شهر رمضان هذا العام في ظل العوامل والظروف الحياتية الصعبة التي سيعيشونها لأعوام قادمة طويلة.
وكالة "خبر" استطلعت آراء المواطنين العائدين لأماكن سكناهم في شمال غزة واطلعت على ظروفهم الصعبة وهي كالتالي:
"لن أذهب مع أبي لأداء صلاة التروايح"
عصام النجار ابن الـ18 عاماً استُشهد جميع أفراد أسرته ولم يتبقى إلا شقيقته الصغيرة يقول بحرقة وغصة: "لا أعرف ماذا أقول وكيف أصف شعوري، فالعام الماضي كانت أمي وأخوتي بجانبي كانوا يخففون عني الألم ولم أكن أفكر في الغد طالما أمي وأبي وإخوتي بجانبي، لكن اليوم أفكر في كل لحظة وليس في غدٍ فقط، فأختي ذات السبعة أعوام تحتاج للرعاية والاهتمام وتحضير وجبات الطعام لها في رمضان وغيره، وأنا لا أعرف كيف ألبي لها كل احتياجاتها".
ويُتابع: "بعد أنّ استُشهد أهلي ودُمِر بيتنا قبل أشهر وشاء القدر أنّ أظل أنا وأختي على قيد الحياة وأنا أعاني، هذا العام لن نلتف على طاولة الإفطار الرمضانية ككل عام، لن تطهو أمي لنا الطعام الذي نحبه لن أشم رائحة الطعام المختلفة وهي تفوح في أرجاء المنزل، لن أذهب مع أبي لأداء صلاة التراويح كل ليلة، لن أسمع صوت أمي وهي تنادي علي وتحثني على النهوض لأتناول سحوري قبل انتهاء وقته".
"أدعو أن يدخل الصبر لقلبي"
سهاد وهي تجلس بجانب خيمتها التي أقامتها بجوار ركام بيتها المهدم تتحدث لمراسلة "خبر" قائلةً: "رمضان دائماً كريم، حتى في هذه اللحظات الصعبة، حتى وأنا أجلس بجوار ركام بيتي لا بداخله، حتى بعد أن فقدت ابني ورأيت الحياة بعده سوداء، إلا أنني أرفع يدي نحو السماء لأدعو الله أن يُدخل السكينة والصبر على قلبي".
وتُضيف: "كم أشتاق لأجواء رمضان حين أذهب للسوق برفقة زوجي قبل يوم الصيام وأبتاع كل ما أحتاجه من مأكولات وأطعمة ولحوم وأضعها في الثلاجة لتكفيني لأسبوع، كم أشتاق لزيارة الأهل ولمة العائلة كل ليلة ونحن نضحك ونتسامر حتى دخول وقت للسحور، كم أشتاق لجاراتي حين كنا نذهب للمسجد القريب منا كل ليلة لصلاة التراويح والتعبد فيه، لكنه اليوم أصبح ركاماً".
"الأمنية الوحيدة: تحرير أبي من الأسر"
محمد ومحمود الشقيقان، التوأم لم يتحدثا عن رمضان، لأنه فكما وصفوه لا يحلو إلا بلمة العائلة وعائلتهم مازالت تحت الركام شهيدة
لكن أمنيتهم الوحيدة هي أنّ يتحرر والدهم من الأسر ليشعرا بشيء من الدفء الذي فقدوه على مدار عام كامل.
إحسان أحمد تقول: "رغم الدمار إلا أنني أحاول أنّ أهيئ الأجواء الرمضانية لأولادي بقدر المستطاع فقد قمت بتزيين الخيمة وشراء طعام السحور وقد صلينا التراويح جماعة وجلسنا وسهرنا حتى شعر أولادي بالنعاس".
صيام على ورق
"مروة أبو صفية" لا يختلف حديثها عمن سبقوها ولكنها قالت: "جيوبنا فارغة وأصبحنا نعيش على المعونات بعد أن كان لنا عمل ومصدر دخل، وحتى المعونات لا نراها كثيراً فهي توزع على المعارف والأحباب وبالواسطة أما نحن فلنا الله، وفي رمضان بالتحديد توزع هذه المعونات للأحباب، ألا يكفي هؤلاء ما حدث معنا من نكبة وتشريد ودمار فيأتون ليعيشوا ويجمعوا التبرعات والملايين على اسمنا، هل هؤلاء يصومون مثلنا أم أن صيامهم على ورق؟".
"خالد أبو عاصي" ابن الخمسة عشر ربيعاً يرى، أنَّ رمضان لا يحلو إلا بوجود المسحراتي، ويقول: "إذا غاب المسحراتي ما بحس إنه رمضان أجا، ولو ما سمعته وهو بيطبل وبيسمعنا كلامه متل "قوم يا نايم وحد الدايم، قوم يا مسلم قوم يا أبو فلان على السحور"، من غير هذه العبارات ما بحس إنه رمضان هَلْ أو إله طعم ومعنى".