غزّة الحزينة تبحث عن الحياة في ظل موت بطيء ينهش كل أركانها وأزقتها وحاراتها، فمنذ أكثر من شهر عاد المواطنون من الجنوب إلى الشمال مُحملين بحب كبير وفرحة لا توصف وصورة الشمال لم تفارقهم منذ أكثر من عام ونصف، عادوا على أمل أنّ يجدوه كما تركوه حتى وهم متيقنون بأنَّ الدمار في كل مكان، لكِنهم كانوا كالذي يرفض الحقيقة الواضحة التي لا لُبس فيها ليس عندًا بل رجاءً من الله أنّ يُخيب ظنهم وما سمعوه ممن بقوا في الشمال ويجدون كل شيء على حاله أو نصف الحال، لكنهم عادوا إلى مناطق شاسعة من ركام المنازل التي حملت أحلامهم وذكرياتهم، ورغم ذلك أصروا على نزع الحياة من مدينة الموت فلم تُخيفهم مشاهد مدينة الأشباح ولا أعمدة المنازل وهي هاوية على عروشها ولا مشهد الكلاب الضخمة التي أكلت من لحوم الشهداء حتى شبعت.
وبسواعدهم المجروحة وبقلوبهم القوية قاموا بنصب خيامهم التي شهدت على عذاباتهم بجوار بيوتهم المهدمة، والبعض منهم وجد ركناً صغيراً في منزله لم يتهاوى بعد، فنظفه ورفع الأحجار وبقايا الصواريخ منه ورتب بعضاً من كراتين المساعدات وأغراضه الباليه ونام فيه رغم أنَّ الكثيرين نبهوه من خطر سقوط بقايا المنزل على رأسه والذي قد يحدث في أي لحظة، لكن ماذا عساه يقول فالذي رأى الموت أشكالاً والعذاب ألواناً طيلة ستة عشر شهراً من المعاناة وعاش أصنافاً من القهر والنزوح والتشريد لن يُبالي بتلك التهديدات.
"قتلوا فرحتي بالمنزل والولد"
تلك المرأة التي أوصلت حبل الغسيل بين أعمدة منزلها المهدم والتي تنظر إلى العالم من خلف ملابسها التي شهدت على أيامها الصعبة، تنظر للناس وقلبها ينزف ولسان حالها يقول "لماذا هدموا بيتي؟ لماذا دمروا حبل غسيلي الذي نظمته في شرفه المنزل؟ لماذا جعلوني أنظر للعالم من زاوية مدمرة؟".
بالكاد استطاعت مراسلة وكالة "خبر" أنّ نلتقط لها صورة وهي رافضة أنّ تظهر أمام العالم بمظهر الضعيف المنكسر، لكِن بعد برهة أقنعتها بالحديث الذي ربما سيُريحها قليلاً ويُخفف عنها ثقلاً ربما سيهلكها.
تقول لمراسلة "خبر": "لا شيء يُحكى ولا شيء بقي، أحلامنا أصبحت مثل ركام هذا المنزل الذي بنيناه حجراً حجراً أنا وزوجي قبل أن يتوفى، استدنا من الناس وعشنا حياة التقشف من أجل أنّ ندخر مالاً لبنائه، كنت قد نذرت نذراً كبيراً بأنّه إذا تم بناء المنزل واستقرينا فيه أنّ أُزوج ابني وأذبح عجلاً وأوزعه على الفقراء والمساكين لكن الحرب جاءت قبل أنّ أُوفي النذر وأزوج ابني، بل دمرت كل شيء، المنزل حين اكتمل وابني حين انتظر المنزل ليكتمل ويتزوج، هو الآن شهيد وأنا قلبي حزين، حزين جداً، باختصار قتلوا فرحتي بالمنزل والولد".
وتابعت: "كل من رآني أعيش في هذا الركن المتهالك من المنزل يحذرني منه ويطلب مني أنّ أبتعد عن جدرانه المتهالكة، لكنني أرفض، فالمنزل الذي ضم أحلامي سيضمني وأنا أعيش فيه وسأموت فيه، لا يهم إنّ سقط أو لم يسقط ،لا يهم إنّ ظلت الحرب معلنة الإنذار الأخير أم لا، فموتنا وحياتنا أصبحت واحد".
"حيطة وأربع عمدان أقصى أمنياتنا"
أحمد المدهون، يقول: "تمنيت أنّ أرجع لبيتي وألاقي بس حيطة وأربع عمدان أعيش فيهم، مش عاوز كل البيت بس زاوية صغيرة أعيش فيها أنا وأولادي، لكِن تفاجأت أنَّ البيت كله منزلينه كأنّه قطعة بسكوت مهروسة".
وأضاف: "لما رجعت من الجنوب للشمال ما عرفت مكان الدار، وكنا نلف بالمنطقة زي الي قاعد بيلف بدائرة حول نفسه، بصعوبة عرفت المنطقة من جزء من بيت دار جيرانا كانت ماسكة حالها وواقفة، يا إلهي كان المشهد صعب أنّ يتحمله أي بشر، المنطقة كلها عبارة عن كوم حجارة، مياه الصرف الصحي بكل مكان، الزبالة والحشرات والقوارض والفئران حدث ولا حرج، احنا حرفياَ عايشين في أبشع منطقة بالكوكب، بعد ما كانت فيها ذكرياتنا الحلوة وجيرانا الي استشهدوا وما ودعناهم".
ويواصل: "بعد أسبوعين قدرنا نتعايش مع الوضع، وننام على ركام ونصحى على ركام، نصحى على ريحة القرف وننام على البعوض الي نهش جسم أولادنا، تحس البعوض كبران بعد الحرب، احنا حرفياً بنموت كل يوم ألف مرة، بنتعايش بس بنكزب عليكم إذا بنقول قدرنا ومش هاممنا، لا احنا كل يوم بندعي إنه يكون الي عايشينه كابوس ونصحى منه، ياريت كل واحد بيقدر يساعدنا تقف الحرب ما يقصر، إلنا حق نعيش ونكون زي أيّ واحد في أي منطقة بالعالم".
المنطقة مليئة بالبعوض ومياه الصرف الصحي
"ابتسام عرفات" التي سئمت من الانتظار، انتظار أنّ تنتهي الحرب وانتظار أنّ يعود زوجها بعد أن أسره الاحتلال على الحواجز التي نصبها لاعتقال المواطنين والشباب والفتيات بكافة أعمارهم، تقول لمراسلة "خبر": "أنا أسكن بجوار بيتي المقصوف لم يترك الاحتلال لي غرفة واحدة لأعيش فيها فنصبت خيمة صغيرة بجوار ركام منزلي وكلما استيقظت من النوم أبكي على بيتي المهدم وزوجي الغائب، وأتفاجأ كيف انقلب الحال بين ليلةٍ وضحاها".
وأردفت: "أطفالي عانوا معي الأمرين بدل أنّ يستيقظوا من نومهم ليتحضروا للخروج للمدرسة، يستيقظون للخروج للوقوف على طابور تعبئة المياه أو على تكية الطعام فإما يعودوا مجبوري الخاطر أو يعودوا منهكين وقد نالت أجسادهم التعب ولم يحالفهم الحظ بشيء".
وأكملت: "أخاف عليهم كثيراً صحتهم أصبحت ضعيفة، المنطقة كلها مليئة بمياه الصرف الصحي والبعوض والفئران التي تركض بين الخيام هنا وهناك والتي أصبحت تنتشر بشكل كبير وتشكل خطراً كبيراً علينا من انتشار مرض الطاعون بالإضافة إلى أنَّ خوفي يزداد أكثر حين أرى ابني الصغير يعبث في ركام المنازل المجاورة فينفجر في وجهه أي جسم مشبوه".

















