الموت لمن يجتاز السياج.. خطة إسرائيلية لتحويل غزة لأكبر سجن جماعي

34bd3060-130a-11f0-99b9-9713b631e03e-file-1743959500366-896827237.webp
حجم الخط

وكالة خبر

في قلب معاناة غزة، تتكشف خيوط رؤية إسرائيلية جديدة، لا تسعى فقط إلى فرض السيطرة، بل إلى إعادة تشكيل الواقع الجغرافي والإنساني للقطاع برمّته، رؤية تتحدث عن "منطقة إنسانية"، لكنها في جوهرها نسخة عصرية لمعسكر اعتقال جماعي.

عبر تصريحات متفرقة، وخطط مسرّبة، ومواقف رسمية وغير رسمية، يتضح أن ما يجري ليس مجرد حملة عسكرية ضد حماس، بل مشروع لإعادة هندسة الوجود الفلسطيني في غزة، في هذا التقرير التحليلي، تستعرض مجلة "+972" الإسرائيلية أبعاد هذه الخطة، التي باتت تثير المخاوف من تهجير قسري واسع النطاق، وربما أكثر من ذلك.

تسمية تكشف المستور

قبل أسبوعين، نشر الصحفي الإسرائيلي اليميني ينون ماجال تغريدة على منصة "إكس"، كشف فيها ملامح خطة إسرائيلية لإخلاء سكان غزة إلى "منطقة إنسانية" مغلقة، خاضعة للفحص الأمني، فـ"ماجال"، المعروف بعلاقاته الوثيقة مع دوائر صنع القرار العسكري، قال بوضوح: "لن يُسمح هذه المرة لأي سكان مارقين برفض الإجلاء"، وأضاف "أن الخطة تحظى بدعم أمريكي".

في اليوم ذاته، عزّز وزير الدفاع الإسرائيلي إسرائيل كاتس هذا التوجه، من خلال بيان مصوّر توعّد فيه بأن المرحلة المقبلة ستكون "أشد قسوة"، مشيرًا إلى أن البديل عن تسليم المحتجزين وطرد حماس هو "الدمار الشامل والخراب".

يُظهر هذا التوافق في التصريحات، وفقًا لتحليل مجلة "+972"، أن الفكرة ليست مجرد أمنية يمينية متطرفة، بل تمهيد لخطة فعلية ترعاها المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، وما يعزّز هذا الاحتمال، تسريبات من ضباط كبار مثل العميد إيرز وينر، الذي كتب عقب فصله من الجيش منشورًا يوحي بأن "القتال يتجه نحو المنعطف الصحيح"، في إشارة ضمنية إلى بدء تنفيذ هذه الخطة الجديدة.

من السيطرة إلى الإقصاء

وفقًا للمجلة الإسرائيلية، يبدو أن التحول في العقيدة الإسرائيلية تجاه غزة بدأ مع تولي إيال زامير رئاسة أركان الجيش، وهو المعروف بتشدده، ويدفع باتجاه تطبيق خطة هجومية موسعة، سبق أن سرّبت صحيفة "وول ستريت جورنال" بعض تفاصيلها، وتقوم الخطة على قصف واسع النطاق مترافق مع تهجير جماعي إلى "منطقة إنسانية"، تكون محاطة بأسوار وأسلاك شائكة، يُقتل من يتجاوزها.

ليست هذه الرؤية بجديدة تمامًا، لكنها تنطوي هذه المرة على درجة غير مسبوقة من التصعيد والعلنية، وصف "ماجال" هذه المنطقة بـ"الإنسانية"، لكن وصف مجلة "+972" كان أكثر دقة وصرامة: "معسكر اعتقال"، فحشر ما يقارب مليوني فلسطيني في مساحة محددة، تحت المراقبة والقيود الأمنية، لا يختلف كثيرًا عن الأساليب التي شهدها التاريخ في أكثر فصوله ظلمة.

 

 

أسطورة مستحيلة التحقق

أحد أبرز الباحثين في الشأن الغزي، الدكتور دوتان هاليفي، يرى أن ما يُسمى بـ"الخروج الطوعي" هو مجرد وهم، في حديثه للمجلة، قال هاليفي: "لن يكون هناك طوعية إذا لم تكن الخيارات الأخرى أسوأ من الموت"، وأشار إلى أن أي خطة تهدف إلى تهجير عدد محدود، كـ30% أو 50% من السكان، لن تحقق هدف إسرائيل النهائي، وهو تقليص عدد الفلسطينيين إلى حد يجعل من ضمّ غزة أمرًا واقعيًا.

هذا التوجه له جذور تاريخية، ففي كتابه "غزة: المكان والصورة في الفضاء الإسرائيلي"، الذي شارك بتحريره، يروي هاليفي كيف حاولت إسرائيل، عقب حرب 1967، تقليص عدد الفلسطينيين في القطاع بوسائل متعددة، من بينها تشجيعهم على الهجرة إلى الأردن أو دول أمريكا الجنوبية، لكن رغم نجاح جزئي في ذلك، فقد أدّت السياسات القمعية إلى نتائج عكسية، تمثلت في تصاعد الغضب الشعبي والمقاومة المسلحة.

من الحصار إلى الإخلاء الكامل

حتى أكتوبر 2023، كانت السياسة الإسرائيلية تقوم على "الاحتواء" ــ أي الإبقاء على الفلسطينيين داخل غزة تحت الحصار والمراقبة، من دون محاولة إفراغها، لكن مع الحرب الأخيرة، انقلبت هذه الرؤية رأسًا على عقب، فهدف إسرائيل الآن، وفق المجلة، لم يعد فقط إضعاف حماس، بل "تفكيك غزة ديموغرافيًا"، عبر تفريغها من سكانها.

تقرير المجلة يستشهد كذلك بمقال للدكتور عمري شافر رافيف، نُشر في يناير 2023، يكشف كيف أن طموحات إسرائيل لتهجير سكان غزة ليست جديدة، بل تمتد إلى عقود، في مقابلة مع الجنرال السابق شلومو جازيت، أول من صاغ سياسات الاحتلال بعد 1967، سُئل عن تلك الخطط فقال: "يجب شنق كل من يتحدث عن هذا". لكن اليوم، تقول المجلة بتهكّم لاذع، "يبدو أن كل من لا يتحدث عن التهجير هو من يجب شنقه".

 

 

صعوبات التطبيق

رغم الإصرار الإسرائيلي الظاهر، فإن العقبات كثيرة، أولها، أن أي عملية تهجير واسعة ستقضي على فرصة إنقاذ المحتجزين الإسرائيليين، ما قد يُحدث أزمة سياسية داخلية كبرى، ثانيًا، قدرة حماس العسكرية لا تزال قائمة، وقد تكلّف الجيش خسائر باهظة في أي عملية برية.

كما أن المعارضة الإقليمية قوية، فكل من مصر والأردن يرفضان استقبال اللاجئين، ناهيك عن التحفظات الدولية، حتى من إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي رغم دعمه الظاهري لإسرائيل، يُبدي تقلبًا كبيرًا في مواقفه، فتارة يهدد، وتارة يفاوض.

أما داخليًا، فتعاني المؤسسة العسكرية الإسرائيلية من إرهاق جنود الاحتياط، ورفض بعضهم الخدمة بسبب السياسات الحكومية تجاه القضاء والحقوق المدنية، الأمر الذي يُضعف من قدرة الجيش على تنفيذ عمليات طويلة الأمد.

الأمل في يأس الفلسطينيين

ورغم كل ذلك، تستمر إسرائيل، كما تشير المجلة، في المضي قدمًا بخطوات صغيرة نحو تنفيذ الخطة، فالحصار مستمر، والقصف متواصل، والمساعدات محدودة، فالفكرة التي يُروَّج لها داخليًا، كما تقول المجلة، هي "دفع الفلسطينيين إلى قناعة تامة بأن لا مستقبل لهم في غزة". حينها فقط، قد تبدأ موجات هجرة جماعية "طوعية" نتيجة لليأس، وليس نتيجة لحرية القرار.

يكتب رافيف: "الفكرة تبدأ بحشر السكان في جيب مغلق، ثم، تُسوّى غزة بالأرض، بعدها، يكتشف المحاصرون أنهم بلا حاضر ولا مستقبل، هنا، يصبح التهجير خيارًا مقبولًا بالنسبة إليهم".