بمقتل إسرائيليين في العاصمة الأميركية على يد أحد المقهورين من الإبادة في غزة تنقلب الدنيا ولا تقعد، أما مقتل عشرات آلاف من الفلسطينيين فتلك لم تكن تستحق هزة كونية لوقفها..! هذا هو التعبير الأبرز للمعايير المزدوجة التي يحكم بها العالم، ليس لأن عملية القتل تحدث في واشنطن أهم عاصمة دولية بينما تلك المستمرة تحدث في غزة، بل لأن هناك فارقاً بين اللون الأبيض وبين اللون الأسود، وإلا لما رأينا كل هذا الحياد الدولي الجارح أمام محرقة غزة لأكثر من عام ونصف العام.
إسرائيل باتت المكان الأقل أمناً لليهود في العالم، هذا ما تقوله الأرقام وليس كما قال أحد أعضاء حكومة نتنياهو الذي أراد استغلال حادثة القتل في واشنطن لدفع اليهود للهجرة إلى إسرائيل، هذا بفضل إصرار الدولة منذ عقود على أن تظل دولة احتلال وتسيطر بالقوة المسلحة على شعب آخر، وتصادر حرياته وترفض بكل مكوناتها أن تكون دولة طبيعية في المنطقة، أو كما قال ابراهام بورغ دولة تعيش على حد السيف ... هكذا هو الأمر.
بتثاؤب شديد بدأت أوروبا تتململ مما يحدث في غزة متأخرة أكثر من عام ونصف، بعد أن تمكن الإسرائيلي من إعدام كل ممكنات الحياة في غزة، قتل أهلها وزرعها بالمتفجرات والألغام حتى لا يعاد إعمارها، بعد أن سحق مدنها، فماذا تبقى كي تحدث هذه الإفاقة الأوروبية المتأخرة؟ كيف وثقت هذه الدول بإسرائيل الدولة التي لم تُخفِ هويتها المتوحشة على امتداد عقود طويلة؟ كيف وافقت أوروبا منذ البدايات على إعطاء الضوء الأخضر لنتنياهو كي يفعل ما يشاء؟ ألم تدرك للحظة أن الأمر سيكون إبادة؟ فقد قالها منذ اليوم الأول هو وشريكه المطلوب للمحكمة يوآف غالانت «لا غذاء لا ماء لا كهرباء» ومع ذلك كان الحجيج الأوروبي لإسرائيل يعطيها ما تريد من الإسناد؟
من يذكر ريتشي سوناك رئيس وزراء بريطانيا السابق عندما هبط بعد عشرة أيام من الحرب في اسرائيل قائلاً «سأظل ثابتاً بالوقوف إلى جانب اسرائيل»، من يذكر الرئيس الفرنسي ماكرون الذي طار بعد أسبوعين من الحرب إلى إسرائيل ليذكرها «بحقها بالدفاع عن النفس» وأي دفاع هذا الذي كان على شكل مجازر وقتل للمدنيين بالجملة؟
كان ما يقوله يائير غولان رئيس الحزب الجديد «الديمقراطيين» ربما صفعة لمن انتظر كل هذا الوقت على تقطيع لحمنا ليقول كلمته متأخراً بعد أن أحرق نتنياهو روما ويقف على أطلالها ليطرد أهلها، لكن المدهش في سياق تصريحات نائب رئيس الأركان السابق وحديثه عن قتل الأطفال أن الأمر أصاب الإسرائيليين جميعاً بنوع من الدهشة التي يصعب تفسيرها، فلدينا أكثر من 17 ألف طفل قتلتهم إسرائيل كانت تنقل صورهم بالبث الحي والمباشر، وكانت تعرف قيادة إسرائيل عدد الأطفال في كل بيت وحي وشارع يتم قصفه، وبعد كل هذا تصاب بالدهشة، فلا يمكن أن يكون ذلك إلا تعبيراً عن عقل مختل منفصل عن الواقع، وهو نفس العقل الإنكاري الذي لا يرى مشكلة في إبادة عشرات آلاف من الفلسطينيين، لكنه يقيم الدنيا على مقتل إسرائيليَّين وتلك قمة العنصرية والجنون.
أما أوروبا التي تأخرت في الإفاقة «طبعاً خيراً من ألا تأتي أبداً» يبدو أنها كانت بحاجة لمن يفرك رائحة الدم في أنفها، وأن يقدم لها كل هذه الدلائل وأكوام لحم الأطفال كي تبدأ بالتفكير بمراجعة سياساتها تجاه اسرائيل، بتلك النعومة التي تتحسس بها والتي لا تستوي مع فداحة الجريمة الإنسانية التي استحقت عليها إسرائيل النبذ والعزل والعقاب مبكراً، وإلا لما تمادت في ارتكاب أفظع الجرائم، فالصمت الدولي كان شريكاً حين فهمت إسرائيل أن لا ممانعة دولية فيما تفعل.
لم تكن أوروبا بحاجة لدليل أن حكومة نتنياهو لا تريد إنهاء الحرب لتنتظر تنصل نتنياهو من المرحلة الثانية من الهدنة على رؤوس الأشهاد ، ولم تكن أوروبا بحاجة لإعلان رئاسي أميركي عن تهجير سكان القطاع لتتعرف على نوايا الحكومة الإسرائيلية والتطهير العرقي، ولم تكن بحاجة لأن ترى من يسقطون جوعاً لتعرف أن إسرائيل تمارس التجويع ضد الغزيين، فلدى تلك الدول من الأجهزة ومراكز الدراسات ما يجعلها قادرة على دخول العقل الإسرائيلي واكتشاف ماذا يفكر بالمعلومات وبالتحليل، فلماذا تأخرت كل هذا الوقت، ولماذا مازالت تتحسس مواقفها؟
لكن بكل الظروف لم تكن إسرائيل يوماً مكشوفة إلى هذا الحد، وهو مسار طبيعي لدولة كانت تسير باتجاه التراجع منذ عقود، ولم تكن تظاهرات الصدع الداخلي في إسرائيل سوى تمظهرات هذا التراجع نحو إنهاء دولة القانون وإقامة دولة التوراة، وهو ما يجعلها منبوذة في العالم. وقد كان الرئيس الأميركي السابق بايدن قد أشار لذلك، ثم جاء الجنون الإسرائيلي في لحظة تصالح مع حقيقته ليعبر عن نفسه كما رأينا في غزة، لتجد نفسها في أسوأ لحظة منذ عام 48، والغريب بعد كل هذا أن إسرائيل تندهش ...!
ما وراء الاستفاقة المتأخرة للضمير العالمي
22 مايو 2025