نجحت بريطانيا في مفاوضاتها مع الاتحاد الأوروبي قبل أسابيع قليلة على ابتزاز دول الاتحاد التي كانت تصرّ حتى اللحظة الأخيرة، على الإبقاء على العضوية «الهشّة» لبريطانيا كنجمة على علم الاتحاد، فقد أصرّت لندن على أن تظل هذه العضوية بحدود محددة رفضاً لعلاقة «وثيقة» لهذه العضوية، خاصة فيما يتعلق بالاندماج السياسي والعملة الأوروبية الموحدة، كذلك في مجال اشتراطات لندن على إقامة مواطني الاتحاد على أراضيها، وانتقاء التشريعات التي تناسبها ورفض أخرى، ترى أنها لا تتناسب مع مصالحها.
ورغم هذه الإنجازات البريطانية، إلاّ أن تخوف البريطانيين من توجهات الناخبين لدى الاستفتاء على البقاء في الاتحاد من عدمه بعد عدة أشهر، أدى إلى تراجع عملة بريطانيا إلى الحد الأدنى منذ عام 2009، بعدما عبر كبار أعضاء حزب المحافظين الحاكم عن تأييدهم لحملة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، عكس موقف رئيس الحكومة الذي اعتبر أن تنازلات الاتحاد الأوروبي لصالح بقاء بريطانيا في الاتحاد، يجب أن توفر قوة جماهيرية ضاغطة باتجاه التصويت على البقاء في الاتحاد.
ورغم أن حزبي الموالاة والمعارضة، المحافظين والعمال، لديهما نفس الموقف الداعي إلى البقاء في الاتحاد، إلاّ أن لكل منهما تبريراً مختلفاً لهذا الموقف، الأمر الذي قد يزعزع جبهة القبول في الاستفتاء القادم، فزعيم حزب العمال جيرمي كيربين، يريد اتفاقاً أكثر وضوحاً لصالح قوانين الرعاية الاجتماعية، واتحادا أوثق مما تم الاتفاق عليه، لكن الفارق الأهم بين الحزبين يتعلق بمسألة الهجرة والمهاجرين، لحزب العمال، خلافاً للمحافظين، يرى أن على الاتحاد الأوروبي، بما فيه بريطانيا أن يوفر حضناً منظماً للمهاجرين، بنسب واضحة ومعلومة، ذلك أن السياسة القائمة الآن لدى عدة دول في أوروبا بخصوص اللاجئين تنطوي على الرفض أكثر منه القبول، وتضع الحواجز والموانع والمواجهة مع جموع المهاجرين، يقول كوربين بهذا الصدد: كل بلد يضع أسلاكاً شائكة على طول حدوده لمنع الناس اليائسة من الدخول، في القرن الحادي والعشرين، أقل ما يمكننا القيام به هو التواصل ومساعدة هؤلاء الناس، من خلال حل سياسي في سورية، وتوزيع عادل لهؤلاء على كافة دول الاتحاد ودعم الدول المستقبلة لهم كاليونان مالياً لمساعدتها على الالتزام بعبور واستضافة هؤلاء اللاجئين».
إلاّ أن موقف حزب العمال هذا، لم يعد ذا صلة بعد الاتفاق الذي أنجزه كاميرون مع الاتحاد الأوروبي، ما يفرض على حزب العمال في نهاية المطاف، التصويت بنعم، للحد الأدنى الذي تم الاتفاق بشأنه، وتظل مطالب حزب العمال، أداة انتخابية اكثر منها أداة لتعديل أي اتفاق، إلاّ أن ذلك قد يتحقق في حال فوز حزب العمال، كما يتوقع كثيرون في الانتخابات البرلمانية القادمة! في حال رفض الجمهور البريطاني في الاستفتاء القادم، البقاء في الاتحاد الأوروبي رغم «إنجازات كاميرون» فإن خروج بريطانيا من الاتحاد، يجب أن يتم عبر آليات تفاوضية قد تستمر لعامين، مع امكانية تمديد هذه الفترة باتفاق الجانبين، ويمكن ان يتم الاتفاق على خروج جزئي، كما هو حال كل من ايسلندا والنرويج، أي البقاء في «الفضاء» الاقتصادي الأوروبي. ومع بداية الحديث عن الاستفتاء، ظهرت هناك عوارض أولية للخروج البريطاني، شركات ومؤسسات اقتصادية وصناعية وتمويلية بدأت تخطط مبكراً لنقل مقراتها وثقلها الاستثماري إلى الخارج، خاصة إلى فرنسا، وأعلن مصرف «اتش اس بي سي» عن نقل ألف وظيفة لديه إلى العاصمة الفرنسية باريس! كافة الدراسات الاقتصادية البريطانية، أجمعت تقريباً على أن للخروج من الاتحاد الأوروبي ثمناً كبيراً سينعكس بالتأكيد على الاقتصاد البريطاني، وأوضحت، أن العودة للتفاوض من جديد، مع الاتحاد الأوروبي، استدراكاً لهذه التكاليف الباهظة، سيجعل بريطانيا أكثر خضوعاً لاشتراطات الاتحاد، عوضاً عن خضوع الاتحاد، هذه الأيام، لاشتراطات بريطانيا، التي ستعود أكثر حاجة وإلحاحاً وبشروط مفروضة عليها.
ولن يكون بوسع المواطن البريطاني، ان يعامل في دول الاتحاد، إلاّ مثل غيره من القادمين أو المقيمين، كأجنبي لا يتميز عن غيره، وهذا الأمر سينعكس على عدد كبير من البريطانيين الذين أمّنوا لأنفسهم عملاً وحياة مستقرة في دول الاتحاد. في حال خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، فإن مكانتها ستتراجع على المستوى الدولي، فهي الآن تلعب دوراً مؤثراً مزدوجاً، من خلال الاتحاد مرة، ومن خلال دورها المستقل مرة أخرى.
إلاّ أن الأخطر في حال الانفصال عن الاتحاد الأوروبي، يتمثل بإمكانية أكبر لكي يصوت المواطنون الاسكتلنديون، في المرة القادمة لصالح الانفصال عن بريطانيا، كما أن ذلك ربما يعيد كاميرون إلى خارج الحلبة السياسية بعد هذا الفشل، الأمر الذي يتيح لمنافسه، عمدة لندن المعارض للبقاء، بوريس جونسون، لكي يصبح زعيماً للمحافظين!!