«أبو شباب».. وابن خلدون حين تنهار المجتمعات...!

b4074a08395cccfa2439721cb44bffc8.jpg
حجم الخط

الكاتب: أكرم عطا الله

 

من أكثر الظواهر وضوحاً في هذه الحرب هي ظاهرة ياسر أبو شباب.
كيف نشأت ومن أين جاءت؟ تلك تفاصيل في رواية تعكس مستوى التهاوي الذي وصلته القضية الفلسطينية بسبب جهل من تحملوا مسؤولية إدارتها وإذ بهم كمن كان يقود مركبة بسرعة جنونية ويضربها بالحائط ... هي مجرد مأساة تداخلت في ملهاة شديدة السخرية ليتحول هذا إلى فانتازيا سياسية موجعة تعكس نهايات طرق كان يقود السير فيها مجموعة من العميان.
في عصرنا في الانتفاضة الأولى والثانية كان الانتماء للفصائل يمثل ذروة الفخر والمكانة الاجتماعية والاعتبارية وكان العملاء أو من يتم الاشتباه بهم يتحاشون الظهور في الشارع.
كان هذا أمراً محسوماً ومعياراً أخلاقياً شديد الوضوح لا يختلف عليه فلسطينيان، لكن في ظاهرة أبو شباب المتجددة لأول مرة يعلن من يعمل مع الاحتلال عن نفسه في كسر كبير لأحد المحرمات في المجتمع الفلسطيني، وهي سابقة ينبغي التوقف أمامها، لا يكفي فيها الاتهام والشتم عندما يبلغ الانحدار الوطني هذا المستوى غير المسبوق.
حين تنهار المجتمعات تكون الضحية الأولى لها هي الأخلاق والمعايير التي توافقت عليها المجتمعات، وهي نظرية توقف عندها عالم الاجتماع العربي ابن خلدون، وتصبح المعايير العامة محل خلاف، فالضربة الكبيرة التي تعرض لها المجتمع الفلسطيني في غزة وتمديد المأساة على امتداد كل هذا الزمن ووصول الهندسة الإسرائيلية حد المساس بالغرائز «الأكل – النوم – الجنس» ويرتد المجتمع أثناء بحثه عن الغرائز الأولية نحو صراع البقاء، هذا يعني أن تبحث الناس عن غرائزها بصرف النظر أين وممن ما يعني أن كل ما تراكم من معايير يحتكم لها وبنى فوقية جسدتها وحدة الجغرافيا وتواصل التاريخ لمجتمع على بقعة ما من الأرض تنهار دفعة واحدة.
هذا ما حصل في غزة ويحصل بأكثر من تعبير أخطرها ياسر أبو شباب، ليس لأنها ظاهرة نقيضة للتراث الوطني وللعقد الاجتماعي الذي تعارف عليه المجتمع فقط بل لأنها تؤسس لحرب أهلية داخل المجتمع الفلسطيني في غزة وتلك الوصفة الأهم للهروب والهجرة.
أما كيف وجدت ظاهرة أبو شباب نفسها؟ لأن المجتمع وصل مرحلة تساوت فيها المتناقضات ليس سوى لأن حركة حماس لم تدرك ما الذي حدث وتلكأت في إدراك حقيقة مارست فيها ما يكفي من الإنكار، حتى لا تصطدم بواقع يؤدي إلى تساؤلات حول جدوى وجودها في المجتمع الفلسطيني، فظلت تتحدث عن نصر وهمي وسط هزيمة واقعية تمثلت باجتياح غزة وتدمير مدنها ومخيماتها، فظلت تفاوض وتفاوض أمام تقدم إسرائيل بثمن شديد التكلفة.
ومع إنكار حماس لواقع الهزيمة العسكرية واستمرار تفاوضها كمنتصرة كان المجتمع ينهار رويداً رويداً ويفرز ما يكفي من الظواهر المعبرة عن واقع تلك الهزيمة.
ولأن الإسرائيلي يتحكم بكل شيء ليعيد هندسة الواقع في غزة متكئاً على إنكار حركة حماس لهذا الواقع مستمراً حتى النهاية، فلو اعترفت حماس مبكراً لقطعت الطريق على تلك الهندسة كما كل معارك التاريخ التي أدرك فيها المهزوم أن ليس لديه من القوة ما لا يمكن له أن ينتصر، فسّلم بذلك محافظاً على ما تبقى من جنوده وشعبه قبل أن ينهار كل شيء كما حدث في غزة وقبل أن يصل المجتمع من الانهيار حد إنتاج ظاهرة تشبه أبو شباب، لأن معايير الحكم على تلك الظاهرة كانت محل إجماع شعبي وليس فصائلياً فقط فالفصائل ليست أكثر من متغير في حالة فلسطينية ثابتة.
جزء كبير من الأزمة أن هذا المتغير أراد أن يكون الثابت في المعادلة، وهنا انقلبت أولويات الفلسطينيين ليقف هرمهم على رأسه حين صورت القوى لنفسها «أنها الوطن والوطن هي» على نمط  لويس الرابع عشر عندما رأت في مرآتها المحدبة ما يكفي من انتفاخ الذات فتصورت أنها من تنتج الأوطان لا الأوطان تنتجها، هنا حدثت المأساة التي تتجسد في قلب غزة وأطرافها.
هي وصفة إسرائيل للحرب الأهلية «لا حماسستان ولا فتحستان» هكذا كان القرار في ظل انهيار مصداته أو ممكنات مقاومته، فالفوضى هي السبيل الوحيد والتي يتكفل بها شخص يبدو على درجة من الأمية يجر خلفه خليطاً من الخارجين عن القانون الدواعش الذين يجري استخدامهم كما تم استخدام الذين من قبلهم من الإسلاميين في المنطقة بدءا من أفغانستان مروراً بغزة.
نتنياهو في اجتماع لكتلة الليكود بالكنيست العام 2018 قال إن من يريد أن يقطع الطريق على الدولة الفلسطينية عليه أن يوافق على تحويل الأموال لحركة حماس وسورية ومجاهديها، وتلك تجربة أدهشت حتى الأميركيين أنفسهم في أفغانستان وغيرها عن مدى جهل الإسلاميين واستعدادهم للانجرار قبل أن يعود أبطالها لنشر الخراب في المنطقة، جاهزين للاستخدام مجدداً، وورثتهم أيضاً تلك الآفة التي أصابت المنطقة وتغلغلت فيها بعد تلك الحرب.
ما تنشره بعض مقاطع يتم التقاطها في شوارع غزة من بلطجة وانهيار للأمن مخيف لهذا الحد الذي يتطلب البحث عن حل يتلاشى وسط الفوضى وإصرار حماس على التحكم، وهنا ربما عليها أن تقطع الطريق بالتعاون مع السلطة واستدعاء الشرطة التابعة للسلطة لضبط الأمن وتسليم حماس السلاح للشرطة وسيكون من الصعب على إسرائيل قصفها، على حركة فتح أن تأخذ زمام المبادرة وعلى حركة حماس أن تدرك أن الزمن لا يعود للوراء والبلاد في مأزق خطير بات ينتج أخطر الظواهر ...أبو شباب إحداها.