توضُّح الخطوط العامة للمخطط

تنزيل (15).jpg
حجم الخط

الكاتب: عبد الغني سلامة

 


لفهم مجريات الأحداث منذ السابع من أكتوبر وحتى اللحظة سنسقط نظرية المؤامرة، ولكن من الصعب إسقاط نظرية المخطط.. فما هو هذا المخطط؟ وما هي أدواته؟
لنعد قليلا للوراء، وتحديدا إلى ما قبل شهر من اندلاع الحرب العدوانية على غزة، فمن على منبر الأمم المتحدة في أيلول 2023 وقف نتنياهو ملوحا بخارطة جديدة للمنطقة، قائلا: سنغير وجه الشرق الأوسط.  
لفهم أعمق، لنتفق على المحددات التالية:
علاقة إسرائيل بالولايات المتحدة ليست مجرد تحالف إستراتيجي بين دولتين، إسرائيل أداة أميركا وقاعدتها المتقدمة، قد تنشأ خلافات بين الحكومة الإسرائيلية والإدارة الأميركية، لكنها أبدا لن تصل إلى العمق، وستظل مجرد خلافات شكلية على التفاصيل، للولايات المتحدة أهداف متوسطة وبعيدة المدى وكذلك لإسرائيل، وفي أغلب الأحيان تتلاقى تلك الأهداف، وأحيانا تتقاطع.
المخطط الذي نتحدث عنه مخطط أميركي إسرائيلي، هدف الولايات المتحدة الإستراتيجي بعيد الأمد هو الفوز في حربها التجارية مع الصين، والإبقاء على هيمنتها على العالم، كقوة متفردة، تتحكم في النظام الدولي. أما أهداف إسرائيل، فهي تصفية القضية الفلسطينية، والظهور كقوة أولى في الإقليم، وأن تتخلص من كل مصادر التهديد (المقاومة، إيران وأذرعها) والقوى المنافسة (إيران، مصر، تركيا) ولكل هدف طريقة مختلفة في التعامل.
محددات المخطط في الإقليم: قطع طريق الحرير الصيني، من خلال إيجاد منافس له هو طريق الهند - الإمارات - إسرائيل. ضرب الموانئ البحرية في كل المنطقة، والإبقاء على موانئ الدول التي تجاري المخطط وتتفق معه، مشروع قناة بن غوريون (وهو هدف مؤجل بسبب ارتفاع تكلفته، ولكنه يبقى على الطاولة)، الاستحواذ على مصادر الطاقة (النفط والغاز)، وضمان تدفقها، وضمان أمن الطرق التجارية ليس فقط لمصادر الطاقة، بل لكل سلاسل الإمداد في شتى المجالات الحيوية.
فيما يتعلق بأهداف إسرائيل: كسر معادلة التفوق الفلسطيني في الصراع الديموغرافي، من خلال قتل أكبر عدد من الفلسطينيين، وطرد أكبر كتلة سكانية ممكنة، والبداية من غزة، بتحويلها إلى بيئة طاردة غير صالحة للسكن، ومن ثم الانتقال إلى الضفة الغربية بتكثيف الاستيطان ومصادرة الأراضي، وانتظار أي فرصة سانحة لنقل نموذج غزة إلى الضفة، وقد فعلت ذلك في مخيمات شمال الضفة كخطوة تجريبية قابلة للتوسع تنتهي بالضم الكلي (أو الجزئي)، إضافة إلى إغلاق وكالة الغوث كخطوة عملية لشطب حق العودة، وإنهاء قضية اللاجئين، وإضعاف السلطة الوطنية ومحاصرتها ماليا وأمنيا، بانتظار إيجاد بديل لها، بحيث لا يتمتع بأي صفة سياسية، أو بتمثيل للشعب الفلسطيني، وبالتالي إنهاء الكيانية السياسية والهوية الوطنية الفلسطينية، كشرط أساسي لإنهاء القضية الفلسطينية، ومن ثم التطبيع مع الدول العربية (أو إخضاعها).
هذه أهداف قديمة/ جديدة، ومحفوظة في الأدراج، وهناك مخططات أخرى بديلة، وما كانت تحتاجه إسرائيل هو ذريعة قوية، كافية لإشعال الحرب، والبدء بالتنفيذ، بأسلوب أحجار الدومينو.
بعد عملية 7 أكتوبر على الفور، أعلنت إسرائيل الحرب، وهو أمر لا تفعله بسهولة، وتستبدله عادة بالإعلان عن عمليات عسكرية محدودة.. في غزة، قتلت ودمرت وقصفت كل شيء، حتى أنهت قوة "حماس" العسكرية، ثم وخلال شهر واحد وجهت ضربات قاصمة لـ"حزب الله"، حتى أخرجته من المعادلة، ومباشرة، تم إسقاط النظام السوري، وبذلك انهار "محور المقاومة" وصار الطريق معبدا إلى طهران. وكأنَّ كل ما حدث سابقا كان تمهيدا للوصول إلى هذه المرحلة.
لم يكن بوسع إسرائيل سابقا توجيه ضربة عسكرية لإيران كما فعلت الآن، وحتى أميركا اكتفت بالتحلل من الاتفاق النووي، واستخدام أسلوب العقوبات والحصار، اليوم، صار بوسع أميركا توجيه ضربات مكثفة ضد منشآت إيران النووية، بل والتلويح بإمكانية إسقاط النظام. ولكن لماذا إيران؟
أولاً: إيران قوة إقليمية مهمة، ولديها مشروع توسعي طموح، وثانياً: تخشى إسرائيل من تحولها إلى قوة نووية، وبالتالي زيادة نفوذها في المنطقة، ثالثا: تتمتع إيران بموقع جيوسياسي فريد وفي غاية الأهمية، وبالتالي كل مشاريع ومخططات الغرب الإمبريالي وتوجهات النظام الدولي الجديد إما أن تمر من خلال إيران أو تصطدم معها، ومن هنا يصبح إسقاط النظام أو استبداله بآخر غير أيديولوجي ومتساوق مع الترتيبات الدولية الجديدة مسألة مهمة بل وحاسمة. ورابعا: إيران أهم مزود للصين بمصادر الطاقة، فإذا ما تم تنصيب نظام موالٍ فإن الصين ستصبح تحت رحمة القبضة الأميركية، بل إن تغيير النظام قد يؤدي إلى تحلل إيران من اتفاقية التعاون التجاري المشترك الذي وقعته مع الصين في العام 2021 والتي تهدف إلى إحياء «طريق الحرير البحري»، وزيادة التبادل التجاري غير النفطي بين البلدين، والتعاون في مجالات التعدين والنقل والزراعة والتكنولوجيا. والتحلل من هذه الاتفاقية سيشكل ضغطاً إضافياً على الصين. وأخيرا: تغيير النظام الإيراني سيكون آخر قطعة في أحجار دومينو تغيير وجه الشرق الأوسط الذي تحدث عنه نتنياهو.
تركيا موضوع آخر ومؤجل، وسيتم التعامل معها بطرق مختلفة، أما مصر (بالرغم من عدم جهوزيتها، الآن، لتبوؤ مكانة إقليمية قيادية في الإقليم) إلا أنها تظل في دائرة الاستهداف: سد النهضة (وهناك تعاون وتنسيق أثيوبي إسرائيلي)، مخططات تهجير سكان غزة إلى سيناء، تضررها الكبير من ضربات الحوثيين للسفن المارة من البحر الأحمر، التي أدت إلى انخفاض حاد في إيرادات قناة السويس. وأخيرا التلويح بشق قناة بن غوريون.. لكن مصر ردت واستعدت بطريقتين: إغلاق محكم لحدودها الشرقية أمام مخاطر التهجير، وتكثيف تواجدها العسكري في سيناء (لأول مرة منذ كامب ديفيد) ليس فقط بزيادة أعداد الجنود بل بأسلحة ثقيلة إستراتيجية.
يمكن القول وبكل أسف، إن إسرائيل والولايات المتحدة حققتا أهدافا لم يكن بوسعهما تحقيقها ضمن الظروف السابقة قبل سنتين.. وقد سار المخطط كما أرادتا إلى حد كبير.. المفارقة أن اللاعبين الأساسيين في الضربة الافتتاحية يوم 7 أكتوبر (وهما حكومة نتنياهو و"حماس") سيتواريان عن المشهد، وربما يختفيان كليا، فهذه الترتيبات العميقة والتغييرات الجذرية ستطال كل المنطقة، بما في ذلك حكومة نتنياهو اليمينية المتطرفة، وربما يجري استبدالها بحكومة أكثر واقعية، وتمتلك الحد المطلوب من العقلانية، ولا تحركها الخرافات الدينية والأساطير التوراتية.
التغيير سيحصل حتما، فالموجة عالية جدا، والذكي من يستطيع الخروج منها سالما.