منذ اندلاع العدوان الإسرائيلي الأخير على قطاع غزة، يعيش الفلسطينيون واحدة من أكثر اللحظات مأساوية في تاريخهم الحديث. آلاف الشهداء، غالبيتهم من النساء والأطفال، دُفنوا تحت أنقاض منازلهم، فيما تُرك من نجا في العراء، بلا غذاء أو دواء أو ماء. مشاهد الدمار تخطّت حدود الكارثة الإنسانية إلى ما وصفه خبراء القانون الدولي بجريمة الإبادة الجماعية.
ومع تصاعد الغضب الشعبي في العالم، تتسارع الجهود الدبلوماسية لوقف إطلاق النار. لكن خلف العناوين الإنسانية، ثمة حسابات سياسية أعمق، تُرسم في العواصم الكبرى، وعلى رأسها واشنطن. تُطرح اليوم مبادرة أمريكية جديدة لهدنة مؤقتة تمتد لستين يومًا، في محاولة لاحتواء الكارثة، وفتح مسارات للمساعدات الإنسانية. لكن السؤال الجوهري يظل: هل نحن أمام مسار حقيقي للسلام، أم أمام هدنة مؤقتة تُستخدم كغطاء لإعادة إنتاج الاحتلال بصيغة جديدة؟
بين هدنة مفخخة وواقع استيطاني دائم، من تجارب الماضي، تعلّم الفلسطينيون أن الهدن المؤقتة كثيرًا ما تتحوّل إلى أدوات لفرض الأمر الواقع، أو لتصفية القضية تدريجيًا عبر تكريس الانقسام، واستمرار الحصار، وتهميش حقوق اللاجئين والقدس. فالهدنة التي لا تُفضي إلى إنهاء الاحتلال ورفع الحصار الشامل وإعادة الإعمار على أسس الحقوق والمساءلة، لا تُعد خطوة نحو السلام، بل نحو تهدئة مؤقتة تُهيّئ لحرب قادمة.
يبقى التساؤل حول دور ترامب، عرّاب "التهدئة" أم مهندس صفقة سياسية، في خضم هذه التحركات، برز مجددًا اسم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي يسعى لاستعادة حضوره السياسي العالمي. يتحدث البعض عن فرصته لطرح "صفقة تهدئة" تُعيد له دور "صانع السلام" الذي فشل في تحقيقه خلال ولايته السابقة. لكن أي دور أمريكي سيكون محل شك إن لم يُبنَ على احترام القانون الدولي، والاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني، وعلى رأسها حقه في تقرير المصير في دولة مستقلة وإنهاء الاحتلال.
ترامب، الذي سبق أن أغلق باب القدس أمام الفلسطينيين، وأوقف المساعدات عن الأونروا، وشرعن الاستيطان، لا يمكن أن يكون وسيطًا نزيهًا إلا إذا غيّر جذريًا من مقاربته، واعترف بمسؤولية بلاده السياسية والأخلاقية تجاه ما يحدث في غزة اليوم.
السلام ليس صفقة موقتة… بل مسار قائم على العدالة وأي حديث عن وقف إطلاق نار لا بد أن يُقرن بمسار شامل يُنهي جذور الصراع، لا أعراضه فقط. العدالة لا تتحقق بتهدئة إعلامية ولا بصفقة انتخابية، بل بإنهاء الاحتلال وبإيقاف جرائم الحرب، ورفع الحصار، وضمان إعادة الإعمار بقيادة فلسطينية، مع مساءلة الجناة وتعويض الضحايا، وبناء نظام سياسي فلسطيني موحد وشرعي.
المنطقة اليوم أمام مفترق طرق: إما السير في اتجاه تسوية تكرّس الانقسام والاستعمار، أو الانطلاق نحو سلام حقيقي يُعيد الاعتبار للحقوق، ويعيد الأمل لشعب حُرم من الحياة لسنوات طويلة.
غزة ليست ملفًا إنسانيًا بحتًا، بل قضية سياسية أخلاقية قانونية. الهدنة المطلوبة ليست "صفقة" لمصلحة طرف على حساب آخر، بل خطوة أولى على طريق طويل نحو حرية الفلسطينيين. وما لم تتغير قواعد اللعبة، سيبقى كل وقف لإطلاق النار مجرد استراحة قصيرة بين جولات حرب أطول.
تعتمد الاستراتيجية الميكافيلية في المفاوضات على المراوغة، إدارة الزمن، وتكريس الأزمات كأدوات سلطة. وبهذا المعنى، فإن بنيامين نتنياهو هو نيكولا ميكافيللي القرن الحادي والعشرين: لا يتفاوض من أجل حل، بل لإعادة ترتيب الوقائع بما يخدم مشروعه الاستيطاني وتكريس الاحتلال. أمام هذه العقلية، وبعد أكثر من ٢١ شهرًا من الإبادة والتدمير الممنهج، لم تعد المصلحة الفلسطينية في الرفض المجرد، بل في إعادة تعريف القبول وفق شروط وطنية تحفظ الكرامة وتؤسس للسيادة.
القبول لا يعني الاستسلام، بل توظيف اللحظة السياسية لصالح فلسطين. فالميكافيلية تُواجَه بالذكاء السياسي، لا بالشعارات. نحتاج اليوم أن نبني خياراتنا على موازين القوى لا على نوايا الخصم، وأن نعيد للفعل الفلسطيني قدرته على التأثير بدل الاكتفاء بالموقف.