ضاقت الحياة بما رحبت على شعب عاش المجاعة وويلاتها عشرات المرات منذ بداية الحرب الطاحنة التي لم تُبقي على شيء في غزة منذ السابع من أكتوبر عام 2023، الفلتان الأمني وأساليب الاحتلال الرامية لقتل أكبر عدد من المواطنين عبر ما يسمى مناطق المساعدات في رفح جنوب القطاع ونتساريم في وسطه، وعبر السماح لمئات الشاحنات بالدخول إلى القطاع من غير عناصر التأمين لكي يتسنى للصوص وبعض التجار الجشعين لسرقتها فضلاً عن توجه الآلاف من المواطنين يوميا مشيًا على الأقدام لكي يحصلوا على طرد غذائي أو شوال من الطحين من هذه الشاحنات الغير مؤمنة، وليت الأمر يتوقف عند ذلك فحتى هؤلاء المواطنين الجائعين كانوا لقمة سائغة في فم أعوان الاحتلال من اللصوص المسلحين والذين ما أنّ رأوا مواطناً يحمل كيساً من الطحين أو بعضاً من المواد الغذائية يقومون بتثبيته والتعرض له بالسلاح وتهديده إما حياته أو ما يحمل بيديه فيضطر المواطن المغلوب على أمره لترك ما حصل عليه بعد تعب ومجهود كبير والسير لمسافات طويلة تقدر من 2 كيلو إلى 5 كيلومترات وينجو بحياته، والبعض الآخر يرفض التنازل عما حصل عليه لكي يعود بالطعام لأطفاله الذين يتضورون جوعاً فإما يخسر حياته ويقومون بقتله أو إصابته وسرقة ما يحمل.
حالة مزرية وصل إليها القطاع إما مساعدات أمريكية مغمسة بالدم وقع فيها مئات الشباب شهداء وإما مناطق خطيرة كحاجز زيكيم الدموي والذي ارتقى فيه عشرات الشهداء من قبل الدبابات والطائرات الحربية، وعلى الجانب الآخر مجموعة من التجار يستغلون هذا الوضع المأساوي والحالة الصعبة التي يمر بها المواطن ويقومون عبر مجموعة من الباعة برفع الأسعار لعشرة أضعافها مستغلين حاجة الناس لأي شي يسد جوعهم، أو تجد الكيلو الواحد من الدقيق يقدر سعره بـ90 شيكلاً حسب توفره من المعابر والكمية المسروقة التي حصلوا عليها، أما عن أسعار السكر فهي تربعت على العرش بعد أزمة الدقيق حيث قُدر سعر الكيلو الواحد منه لـ 450 شيكلاً، أي مايعادل المئة وعشرون دولاراً أمريكياً، وهو الأغلى في العالم وما يترتب على ذلك من ارتفاع لسعر السكر على صناعة البسكويت والحلويات والمعجنات والبوظة وغيرها من السلع التي يشتاق إليها المواطن دائماً، حتى إن اشتاق لأبسطها وهو تناول كوباً من الشاي بالسكر والنعناع، فالمواطن الذي لايستطيع أن يُؤمن لقمة العيش ورغيف الخبز لأطفاله كيف له أن يستطيع الحصول على السكر لشرب الشاي، فأبدع الباعة باستغلال الناس فقاموا ببيع السكر بالجرامات حيث أصبح يباع سبعة وعشرون جراما من السكر بعشرة شواقل وهي لا تتعدى معلقة واحدة بالكاد تقوم بتحلية كوباً من الشاي وإنّ حلم المواطن أنّ يشرب الشاي مع أطفاله في أحسن الظروف ويُحضر الشاي في إبريق متوسط عليه أن يشتري سكر بخمسين شيكلاً على أقل تقدير، فمن أين له أن يحصل على السكر بهذا السعر الخيالي فيستغني عن أي شي يدخل السكر في عمله ويكتفي بشراء العدس والفاصولياء أو أي طعام متاح بجانب الطحين الذي يباع بالكيلو وليس بالشوال كما السابق.
"باعة استغلوا حاجة الناس وتكالبوا عليه"
"أم مراد مسلم"، وهي نازحة من شمال القطاع للمرة العاشرة منذ بداية الحرب، تراها تمشي تنظر للبسطات المنتشرة على شارع الرشيد غرب مدينة غزة وهي تحدث نفسها بتمتمات لا تسمع منها شيئاً ولا يفهمها أحد سواها، استوقفتها مراسلة "خبر" وسألتها عن حالها، فكانت أول عبارة تنطق بها "حالي بيصعب ع الكافر مش ع ابن بلدي "، وتقول: "من الصبح وأنا بلفلف بشارع البحر من شماله لجنوبه مشان ألاقي أي شي أطعميه لأولادي الأيتام وكل ما أمشي بلاقي السعر بيزيد، للأسف كل الي ببيعونا بهادي الأسعار هما أولاد بلدنا من بيت لاهيا، كيف لو إنهم مش دايقين الي احنا دقناه؟! كيف لو إنهم مش نازحين زينا؟! بس أنا بسأل مين هدول الفئة من الناس انعدم ضميرهم وماتت المروؤة منهم بيكون سارق العدس ولا المعكرونة او مستلمهم ببلاش وبيقوم ببيعنا إياهم بـ100 ضعف سعرهم الأساسي، متثلاً من شوية بقول للبياع وأنا بعرفه منيح من منطقتنا كان حرامي، بسأله عن سعر نص كيلو المعكرونة، وهو مش مستنضف حتى يطلع فيا وبيقولي بـ30 شيكل، تخيلي نص كيلو المعكرونة يا دوب تشبع 3 أطفال بـ30 شيكل، وعشان أطبخها إلهم بدي بـ 5 ماجي، وبـ5سيرج، وبـ10صلصة، وبـ2 فلفل هادي أبسط مكوناتها فكيف لو تشوفي كام واحد عندي بالخيمة، بين أطفال وكبار بستنوني مشان ياكلوا بيوصل عددهم لـ10 أفراد، قوليلي من وين بدي أجيبلهم ثمن وجبة وحدة؟".
وتُتابع: "تعبت وأنا أدور على الطحين وكل للي موجود يا إما بـ50 أو 55 أو 60 للكيلو الواحد، طيب الي متلي بدي 3 كيلو يومياً ويا دوب يكفي أولادي يعني بدي يومياً تقريباً 200 شيكل مشان أقدر أطعميهم الأساسيات البسيطة، فأنا من وين بدي أجيبلهم ياكلوا، بطلنا ننتبه للحرب أو نخاف من الصواريخ وشغلونا بالأكل، حسبي الله ونعم الوكيل".
"سماسرة العمولة يقتطعون جزءًا من أجساد المواطنين"
"رؤى وزوجها" لم يكونا بعيدين كثيراً عن حال أم مراد ولكنهم ربما يبتسم لهم القدر فقط في عدد أفراد أسرتهما فرؤى أنجبت طفلين على عكس أم مراد التي أنجبت 9 أطفال والذين بالطبع يحتاجون لميزانية دولة في هذا الوضع المأساوي جراء غلاء الأسعار واستغلال القريب قبل الغريب لحاجة الناس.
تقول رؤى: "كنت قبل الحرب أعمل في إحدى الشركات الخاصة بالتأمينات وفي هذه الحرب تم قصف الشركة وقطع مصدر رزقنا، وبالتالي تم الاستغناء عن خدماتنا، ونحن الآن نعتمد على راتب زوجي الذي يعمل موظفاً عسكريا في سلطة رام الله، صحيح أنّ حالنا أفضل من غيرنا، ولكن يعلم الله أننا متل الكثيرين لا نستطيع في بعض الأوقات شراء رغيف من الخبز الحاف لنأكله، كيف لا وتجار وسماسرة العمولة الذين يمصون دماءنا عبر اقتطاع 45%من الراتب عبر التطبيق البنكي لنتمكن من الحصول على سيولة نقدية في يدينا، ويقدر راتب زوجي بـ1800 شيكل وبعد الخصم فقط نحصل على 1000 شيكلاً في أحسن الأحوال، فماذا يفعل هذا المبلغ لنا، كل شيء في غزة مرتفع سعره إلا الإنسان فدمه رخيص جداً وجداً".
جدير ذكره أنَّ العشرات من التغريدات والمنشورات عبر الفضاء الأزرق ومواقع التواصل الاجتماعي ضجت بالعشرات من المنشورات التي تدعو العالم لوقف الحرب وإبادة الشعب الفلسطيني والبعض الآخر كان منصباً على توجيه الاتهامات للتجار المستغلين لحاجة الناس بالإضافة إلى اللصوص الذين كانوا هم والاحتلال ضد المواطن المغلوب على أمره، في سرقة ما تبقى من بيوت وممتلكات المواطنين، غير مراعين معاناة هؤلاء الناس وجراحهم التي تنزف منذ سنتين".
المجاعة في غزة وصلت إلى مؤشر خطير ومنحى لايمكن السكوت عنه فعشرات الأطفال لقوا حتفهم والبعض الآخر ينتظر دوره في الوقوف على مؤشر المجاعة المخيف وليت الأمر توقف عند هذا الحد بل أصبح سوء التغذية بادياً على السواد الأعظم من هذا الشعب المنكوب رجالاُ ونساءُا وأطفالاُ، جسم هزيل تكسوه صفرة واضحة ونقصاً بالوزن جلياً للقاصي والداني، فإن كنت تعرف بعض الأشخاص في حياتك اليومية وشاهدتهم فجأة بعد غياب بالتأكيد لن تتعرف عليه بسرعة نتيجة لما يبدو عليه ذاك الشخص".
ولعل من القصص الطريفة التي أخبرنا عنها زياد النازح من مخيم جباليا لميناء غزة في هذا الجانب، يقول: "افترقت عن صديقي المقرب جداً مدة تتجاوز السنة حيث بقيت أنا في الشمال وهو نزح للجنوب وبعد أنّ عاد للشمال توجه لبيته وحيث أنه كان يقطن بجانب بيتي، كنت أسير في أحد الأيام بجوار منزله لمحت شخصاً في الداخل فتناولت عصا كبيرة وهممت بالانقضاض عليه حتى بعد أنّ رأيته صممت على ضربه ظاناً أنّه لص جاء ليسرق المنزل وحين تحدث إليى توقفت فجأة محاولاً استيعاب الأمر،لأنَّ صوته صوت صديقي لكن الشكل العام لا يشبهه البتة، فصديقي كان مليء الجسم وأبيض ولكن الذي أمامي كان ضعيفاً جداً تكسو وجهه سمرة وشعره منكوش ولولا أنه تحدث إلي لكنت ضربته على رأسه، الحمدلله أن صوته لم يتغير وإلا كنت قتلته".
العيون تتجه للمفاوضين
جميع المواطنين في غزة عيونهم تشخص نحو طاولة المفاوضات سواء في قطر أو أمريكا أو في أيذ مكان بالعالم وقلوبها تدعو قبل ألسنتهم بأن تتوقف الإبادة التي تسببت بإرتقاء أكثر 60 ألف شهيد وأكثر من 150 ألف آخرين بالاضافة لآلاف المفقودين والأسرى، داعين المفاوضين والقادة الفلسطينين لبذل جهداً أكبر حتى تنتهي الحرب التي لم تترك أحداً سليم في غزة، وتسببت في تهجير شعب أعزل عن بيته وعمله وراحة باله بالإضافة لفقده لمئات العائلات التي مازالت تحت الأنقاض حتى كتابة هذا التقرير.
فهل سينجح الوسطاء في كسر الهوة بين الجانبين وتقريب المسائل الشائكة والعالقة والتي من أهمها عدم العودة للحرب بعد مدة الهدنة المتفق عليها والانسحاب الإسرائيلي من غزة ، هذا ماستجيب عنه الأيام والساعات القادمة إما فرج وهدوء وإما قتال ومزيد من الموت والدمار.