رغيف الخبز حلم أصبح بعيد المنال في قطاع غزّة على شعب طال انتظاره لفرجٍ قريب بعيد لا يأتي، وحلم لم يتحقق بعد في وقف الإبادة الجماعية التي يرتكبها الاحتلال في حق الكبير والصغير، الحجر والشجر ولم يستثنى أحد من آلة حربه المدعومة أمريكياً، ليطل من جديد شركاء الاحتلال برؤوسهم وبطونهم العفنة في حصار الشعب الجائع، فيقومون بتكديس بضائعهم في المخازن وإخراجها بالقطارة للمواطنين مستغلين ما وصلت إليه المفاوضات، فإنّ وصلت إلى انفراجة قريبة يقومون بتخفيض الأسعار ولكنها في المجمل مرتفعة جداً في حدود الطبيعي، وإنّ تم إذاعة بأن هناك تعثر في المفاوضات يقومون برفع الأسعار مئة ضعف سعرها الطبيعي، وفي كل الأحوال يدفع المواطن المغلوب على أمره الثمن من أجساده ونفسيته وحياته.
التجار والباعة الجائلين ولصوص المساعدات لم يرحموا معاناة شعبهم فتكالبوا عليه وضغطوا على حنجرته لكي لا يتنفس فلم يدري هذا المواطن المسكين مَنْ يواجه أولاً، الاحتلال أم هؤلاء الخارجين عن مبادئ الإنسانية والأخلاق.
ارتفاع الأسعار وشحها وعدم حصول المواطن على رسالة تفيده بالتوجه لاستلام مساعدة من قبل برنامج الأغذية العالمي wfp أو أي مؤسسة شريكة في التوزيع، دفعته للثورة على هؤلاء اللصوص فانطلقت حملة إلكترونية شديدة عليهم داعية الناس للخروج ضدهم وإغلاق بسطاتهم العشوائية ومصادرة بضائعهم الغالية وتوزيعها على المتجمهرين وإما باقتحام بركسات ومخازن التجار الذين بكل تأكيد سارعوا لإفراغ مخازنهم من البضائع ووضعوها في مكان مجهول، غير آبهين بمعاناة شعبهم وجوعهم وموت أطفالهم جوعاً.
الحملة تواصلت وانتقلت إلى الشارع فثار الجياع في عدة أسواق بمدينة غزة ووسطها وقاموا بتكسير وضرب بعض التجار الذين ثبت رفع الأسعار من قبلهم وتكسير بسطاتهم، وأغلقوا السوق لحين عودة الأسعار لشكلها الطبيعي قبل هذه الموجة المسعورة من قبلهم لرفع الأسعار.
وكالة "خبر" استطلعت وكانت حاضرة في هذا المشهد ورصدت بعض من معاناة الجائعين وحملة ثورة الجياع بالصورة والكلمة وكانت كالتالي:
حالة التنفيس الشعبوية التي يعيشها المواطن جعلته لا يأبه لصواريخ المحتل بقدر ما يهتم لتوفير رغيف الخبز الذي وصل ثمنه بالحجم الصغير لعشرة شواكل أي مايعادل ثلاثة دولارات أمريكي وبذلك يكون الرغيف الغزي الأغلى عالمياً من حيث القيمة المادية والمعنوية لشعب اعتماده الكلي على رغيف الخبز.
تراهم في الشوارع وجوههم صفراء وأجسادهم نحيلة والأسواق فارغة تماماً من السلع الأساسية التي يمكن أن تقويه على ضنك هذه الحياة وقذارة هذه الحرب، فتجدهم يتساقطون واحداً تلو الآخر وهو ما أعلنت عنه مستشفى الشفاء في غزة والتي أفادت بأن أعداداً غير مسبوقة من المواطنين المجوعين من كافة الأعمار تصل إلى أقسام الطواريء في حالة إجهاد و إعياء شديدين، محذرة بأن المئات من الذين نحلت أجسادهم سيكونون عرضة للموت المحتم نتيجة الجوع و تخطي قدرة أجسادهم على الصمود.
حملة محاربة لصوص الحياة لم تثني التجار عن جشعهم أو تجعلهم يراجعون أنفسهم ولو قليلاً ويقوموا بتخفيض الأسعار نزولاً على تعاليم الدين الإسلامي قبل أن يكون على رغبة الشارع الجائع فأخفوا بضاعتهم بل وقام بعض من صبيانهم ببيع هذه البضائع عبر "الأون لاين" لكي لا يتم مصادرة ما يبيعوه من قبل المواطنين.
مضت أيام على بدء الحملة والجيوب والأسواق فارغة تماماً والبطون الجائعة تتساقط واحداً تلو الآخر وبعض الأطفال يلقون حتفهم نتيجة سوء التغذية وما زال المواطن يبحث عن كيلو من الطحين الذي وصل ثمنه بين 150 إلى 200 شيكل للكيلو الواحد وهو بكل صدق لن يكون بمقدرة السواد الأعظم من الناس شراءه.
"أسعد" وهو شاب ثلاثيني يسير في سوق الشاطئ المغلق منذ يومين عله يجد مايسد فيه جوع أطفاله يقول لمراسلة "خبر": "مش قادر أمشي ولا أتكلم بالعافية بجر بحالي جر، من يومين ما أكلت شي، بشرب مية وملح مشان ما أقع، أولادي ما أكلوا ولا لقمة من يومين، حاولنا امبارح نطعميهم شوية رجلة - البقلة- وهي نبتة برية تخرج من باطن الأرض دون تدخل البشر في زراعتها، زوجتي طبختهم وعملتهم شوربة مشان تسكت فيهم أبطون اولادي الي كل يوم بيبكوا بدهم رغيف خبز".
ويواصل: "ابني ليث عمره 5 سنوات شو ما أعطيته ما بيحس بالشبع،غير لما يمسك رغيف خبز وياكله ساعتها بيسكت، من يومين وأنا بكذب عليه بكرة بجيبلك يابا كيلو طحين وقرصين فلافل مشان أحشيلك اياهم، بلف بلف بالسوق ما بلاقي شي، بضل قاعد بالشارع لغاية ما أمه تقولي ليث نام، برجع بعدها على البيت، بقدرش أرجع البيت وأشوفه بيبكي ويطلب رغيف خبز وأنا مش قادر أوفرله اياه".
وتابع: "دورت كتير، بعض البياعين اللي عنده اشي للاكل أحكيلو بشتريه منه بسعره الطبيعي مش سعر الفجار اليوم، لكن للأسف ولا حدا فادني وهيني بلف وبدور ويارب ألاقي كيلو طحين واحد، بدي أدفع فيه 50 شيكل وربنا يسامحني لأني مضطر أشتريه وأولادي ياكلوا أما بسعر 150 شيكل طبيعي ما راح أقدر أشتري ولا نص كيلو".
وختم حديثه، قائلاً: "بناشد كل الدنيا والعالم، مبسوطين على موتنا مش عارفين توقفوا الحرب، بلا ما تقف الحرب مش مهم يقصفونا بس يطعمونا، مش موت وقصف كمان جوع، دخلونا مساعدات وخلوا أطفالنا ياكله بحق الدين الي بيجمعنا معكم".
مرت أيام طويلة والأسعار في ارتفاع والاحتلال يستهدف المجوعين في نقاط المساعدات جنوب وشمال القطاع، ورغم ذلك يرمي الآلاف من الشباب بأنفسهم للتهلكة للحصول على بعض المساعدات التي تسد جوعهم وجوع أطفالهم، فيكتب لبعضهم الخروج بسلامة من نقطة المساعدات حاملين ماتيسر لهم من طعام والبعض الأخر لا يخرج منها أحياء فيعودوا لأهلهم محمولين على عربات تجرها الحيوانات أو على عربات يجرها مواطن كُتب له النجاة والبعض الآخر لم يُكتب لأهله أن يودعوه لأنه وبكل بساطة تم دفنه في رمال المنطقة من قبل جرافات الاحتلال بعد أن استهدفه قناص أمريكي واسرائيلي.
الحال لم يعد يطاق في غزة، الجوع نهش بطون جميع المواطنين ولم يستثني منهم أحداً، فتراهم يتساقطون في الشوارع مغشياً عليهم أو تراهم يناشدون العالم لنقاذهم وفتح المعابر والضغط على الاحتلال لفتح المعابر وإدخال المساعدات لكن الاحتلال يصر على أن يُدخل تلك المساعدات بطريقته الوحشية عبر إدخالها على الحواجز المعروفة ولايسمح للشاحنات أن تُفرغ حمولتها في المخازن داخل القطاع، بل تعطي تعليمات لسائقي الشاحنات برمي ما على الشاحنات بالقرب من هذه الحواجز لإذلال الشباب وقتلهم وهم يتدافعون للحصول على بعض شوالات الطحين التي حُرم منها منذ أيام طويلة، فسقط العشرات من الشباب شهداء وجرحى وأمهاتهم الجوعى ينتظرنهم بكل خوف وألم بأن يفقدن أبناءهن للأبد.










