في رده على سؤال «الجزيرة»، قال «الخبير العسكري» إن المقاومة في غزة سوف تستدرج جيش الاحتلال إلى حي الزيتون حيث تكثر «غابات الزيتون»، وهناك ستجره إلى «حرب غابات»، كما سبق أن جرته إلى «حرب الأنفاق».. لنتجاوز الخطأ اللغوي باستخدام لفظ «غابات الزيتون» بدلاً من «كروم الزيتون»، ولنتجاوز جهله الزراعي بعدم معرفته أنَّ أشجار الزيتون تُزرع على مسافات متباعدة بين الشجرة والأخرى 4 إلى 5 أمتار، وبالتالي حتى العصفور لا يستطيع الاختباء بينها.. لكن من الصعب تجاوز جهله في طبيعة وجغرافية المنطقة التي يتحدث عنها، ويقدم عنها تحليلاً عسكرياً، فلو كلّف نفسه عناء البحث أو مشاهدة صور غزة لعرف أن كل غزة خلت من الأشجار، وتحولت إلى أكوام ردم وأنقاض.
ومن المستحيل أن نغفر له ولا للقناة التي استضافته جريمة التكسب من مأساة غزة، مستخفاً بأرواح الناس، وداعياً لمزيد من التقتيل.. والموضوع لم يكن مجرد خطأ عابر، أو غير مقصود، هو نهج تلتزم به الجزيرة وغيرها لأغراض دعائية وسياسية.
تذكرون تحليلات الدويري في بداية الحرب حين قال: لن يجرؤوا على الاجتياح البري، وبعد أن اجتاحوا قال: هذه مجرد خاصرة رخوة.. وغيره قال من المستحيل اجتياح خان يونس، فهي معقل المقاومة، وبعدها تدمرت خان يونس.. وقالوا أيضاً: إذا اجتاحوا رفح سيغرقون في رمالها، فهي آخر حصون المقاومة.. دخلوها ودمروها وصارت أثراً بعد عين.. وها هو سعيد بن زياد يؤكد كل يوم أنه إذا اجتاحوا مدينة غزة سيتكبدون خسائر فادحة وستكون مقبرتهم.
كلما شـنَّ الاحتلال هجمة على أهلنا في غزة، بدلاً من التركيز على جرائم الاحتلال وهول ما يقترفه من مجازر، وإظهار حجم الدمار والتقتيل واستهداف المدنيين.. يقوم الخبراء العسكريون الذين تستضيفهم الجزيرة بإظهار الجانب البطولي الأسطوري للمقاومة، فيبدو الحدث في أعين ملايين المشاهدين على شكل مواجهة عسكرية بين جيش غازٍ وجبهة مقاومة تصده وتكبده خسائر وتعيق تقدمه.. فيسعد المشاهد العربي ويستكين ويقتنع في قرارة نفسه بأن الأمور جيدة، والمقاومة بطلة، وعلى وشك هزيمة الاحتلال، ولا حاجة لفعل شيء.. وهنا يختفي المدنيون تماماً، وتختفي جرائم الاحتلال وتحل مكانهما صور مثلثات حمراء وقناصة يتربصون بالعدو ويسقطونهم واحداً تلو الآخر.
مع كل هجوم عسكري إسرائيلي تفتح الجزيرة خارطة تفاعلية تشعر وكأنها خارطة الصين! ويبدأ محللوها بترديد عبارات تضخيمية: محاور القتال، القطاعات العسكرية، الكمائن المركّبة، حقول الألغام، غابات الزيتون، وصحراء خان يونس، تدمير دبابات الميركافا، اشتباكات ضارية، تحصن المقاومة في الحافة الصحراوية.. وكأن الحديث عن معركة العلمين، أو إنزال النورماندي!
جرعات مخدرة يقدمونها للمشاهد العربي حتى يظل منتشياً بنصر وهمي، وحتى لا يلتفت للجانب المأساوي لنكبة غزة.
من غير المعقول أن نتوقع من المواطن العربي أن يثور، وهو يسمع أخبار تدمير أرتال الدبابات ومقتل آلاف الجنود، وإفشال مخططات العدو في تنفيذ العزل الجغرافي.. طبيعي ألا يتحرك، وأن يظل مطمئنًا، فهناك من يقاتل ويحرز النصر نيابة عنه، ويمنحه شعوراً بالعزة وهو على كنبته مسترخياً.
في التحليل السياسي التضليل لا يقل خطورة؛ فمنذ بداية العدوان والخبراء يتوقعون انهيار حكومة نتنياهو في غضون أسابيع.. والإيهام بأن تظاهرات عائلات الرهائن ستوقف الحرب، والمعارضة الإسرائيلية ستغير الحكومة، والجيش منهك ومستنزَف، والقيادة الإسرائيلية تتخبط، والاقتصاد الإسرائيلي على وشك الانهيار.
طالما أن إسرائيل على وشك الانهيار فلننتظر قليلاً.. وإذا كان اقتصادها على حافة الهاوية لنمد أمد الحرب حتى نستنزف كل قدرات إسرائيل، وبما أن ثلث دبابات الجيش تدمرت سنحتفل بالانتصار الكاسح قريباً.
إسرائيل لم تحقق أهدافها، وبالتالي هي مهزومة.. وطالما هي مهزومة لماذا نطالب بوقف الحرب؟ وفوق مطالبتنا بإيقاف الحرب ولجم إسرائيل، نصرح على الشاشات: نحن قوة عظمى، ولدينا ترسانة أسلحة خطيرة، ولن نسلمها! بل لدينا أسلحة سرية، وما خفي أعظم.
الضمير العالمي يقول: إسرائيل ترتكب إبادة جماعية، وتمارس التطهير العرقي، وحسب تقارير منظمات دولية مختصة قتلت إسرائيل ثلاثة أضعاف الرقم المعلن لوزارة الصحة في غزة، أي نحو 180 ألف إنسان.. ودمرت 80% من بنيان غزة وبنيتها التحتية.. ثم نقول: طحنّا جيش العدو، وانتصرنا..
بحسب المنطق: إما أننا نتعرض لإبادة وهجمة بربرية وحرب تجويع ويتهددنا خطر التهجير.. أو أننا انتصرنا.. ولا يمكن الجمع بين المقولتين.
الانتقاد هنا موجّه للخطاب الإعلامي واللغة المزدوجة وحملات التضليل والموقف السياسي غير المسؤول.. وليس للمقاومين الأبطال والمخلصين الذين يضحّون بأرواحهم وهم يتصدون لجيش الاحتلال.
الاعتراف بالدولة قبل قيامها لا يكفي
09 اغسطس 2025