شكراً إسبانيا وبيدرو سانشيز

تنزيل (21).jpeg
حجم الخط

الكاتب: رامي مهداوي

 

في زمن يسوده صمتٌ دولي مخجل، وانحياز فجّ للقوة على حساب القيم، تبرز إسبانيا اليوم كصوتٍ استثنائي ينحاز للحق الفلسطيني، ويعيد للضمير الإنساني بعضاً من بريقه المفقود. لم يكن قرار رئيس الوزراء الإسباني، بيدرو سانشيز، الاعتراف بدولة فلسطين مجرد خطوة سياسية عابرة، بل كان إعلاناً صريحاً بأن العدالة لا يمكن أن تظل رهينة الحسابات الضيقة أو رهينة الابتزاز الإسرائيلي والغربي.
لقد جسّد سانشيز في مواقفه الأخيرة روحاً أوروبية غابت طويلاً، حين تجرأ على تسمية الأشياء بمسمياتها، فوصف ما يتعرض له قطاع غزة بأنه «إبادة جماعية»، وفضح التواطؤ الغربي بسياسة المعايير المزدوجة، مؤكّداً أن ما لا يُقبل من روسيا لا يمكن التسامح معه من إسرائيل. إن هذه اللغة الواضحة، النادرة في دهاليز السياسة الأوروبية، تمثل انتصاراً للقيم الإنسانية التي يحاول الاحتلال الإسرائيلي سحقها يوماً بعد يوم في غزة والضفة الغربية.
ولا شك أن الشعب الإسباني، قبل قيادته، كان ولا يزال في طليعة الشعوب الأوروبية تضامناً مع فلسطين، سواء عبر التظاهرات الحاشدة التي شهدتها شوارع مدريد وبرشلونة، أو من خلال مواقف النخب الأكاديمية والثقافية والفكرية التي جعلت من فلسطين رمزاً أخلاقياً عالمياً. هذه الروح الشعبية الداعمة كانت الحاضنة التي مكنت سانشيز من اتخاذ خطوات تاريخية؛ من الاعتراف بدولة فلسطين إلى المطالبة بتعليق اتفاقية الشراكة بين الاتحاد الأوروبي وإسرائيل، وصولاً إلى فرض عقوبات على وزراء التطرف والعنصرية في حكومة نتنياهو.
إن شجاعة سانشيز لا تكمن فقط في تحدي الضغوط الإسرائيلية والأميركية، بل في تحمّله كلفة الانقسام الداخلي الذي فجّرته القضية الفلسطينية داخل اليسار الإسباني. فبينما يكتفي البعض بالشعارات، قرر هو أن يضع اسمه في سجل الفعل السياسي الحقيقي، مؤكّداً أن الدفاع عن فلسطين ليس خياراً تكتيكياً، بل هو التزام أخلاقي يتجاوز الاعتبارات الانتخابية. إن جرأته في مواجهة الانتقادات الداخلية والخارجية تذكّرنا بأن الزعامات تُصنع حين يتلاقى المبدأ مع القرار، وحين يتقدّم صوت الضمير على صوت المصالح.
لقد أثبتت إسبانيا أن التضامن مع فلسطين ليس مجرد «قضية خارجية»، بل هو معيار للاتساق الأخلاقي لأي خطاب تقدمي أو إنساني. ومن هنا، فإن المواقف الإسبانية الأخيرة تمثل حجر زاوية في إعادة تشكيل وعي أوروبي جديد يجرؤ على النظر في المرآة ومساءلة نفسه: كيف يمكن لقارة تدّعي أنها مهد الديمقراطية أن تصمت أمام قتل الأطفال وتجويع المدنيين وقصف المستشفيات؟
وهنا، تبرز مسؤولية كبرى على عاتق بقية الدول الأوروبية؛ فإسبانيا لم تفعل سوى ما يمليه الضمير الإنساني والقانون الدولي، وعلى باريس وبرلين وروما وعواصم أوروبا كلها أن تحذو حذو مدريد. إن صمت أوروبا لم يعد يليق بها، وإذا كانت تدّعي الدفاع عن العدالة والحرية، فإن الامتحان الحقيقي يكمن في موقفها من فلسطين، حيث تتعرى الشعارات وتُختبر المبادئ.
وفي المقابل، على الدبلوماسية الفلسطينية أن تحسن استثمار هذا الموقف الإسباني، وأن تُكثّف الشكر والإسناد، عبر بناء تحالفات أوثق مع مدريد، وتوظيف هذا الزخم في المحافل الدولية. إن الدعم الإسباني لا يجب أن يبقى معزولاً، بل ينبغي أن يتحول إلى رافعة سياسية تضغط على بقية أوروبا للالتحاق بخط العدالة. فالشكر العلني، وتقدير هذا الموقف بجدية، سيكونان بمثابة رسالة للعالم بأن فلسطين لا تنسى من يقف معها، وأنها تجيد تحويل التضامن إلى قوة دفع إستراتيجية.
إن شكرنا اليوم لإسبانيا، قيادةً وشعباً، ليس مجرد واجب دبلوماسي، بل هو تعبير عن امتنان حقيقي لدولة اختارت أن تنحاز للعدالة، وأن ترفع راية القانون الدولي في زمن الاستباحة. فموقف مدريد لا يمنح الفلسطينيين فقط سنداً سياسياً ومعنوياً، بل يفتح كوة أمل في جدار الصمت الأوروبي، ويمنح الشعوب الأخرى مثالاً على أن كلمة الحق يمكن أن تُقال حتى في وجه الأقوياء.
قد لا تمتلك إسبانيا «قنابل نووية أو حاملات طائرات أو احتياطيات نفط»، كما قال سانشيز بواقعية مؤثرة، لكنها تملك ما هو أرفع: تملك إرادة مقاومة الخضوع، وشجاعة الوقوف في صفّ المظلوم، وإيماناً راسخاً بأن النضال من أجل فلسطين هو نضال من أجل إنسانية العالم كله.
إننا نؤمن بأن هذه المواقف، مهما بدا أثرها محدوداً في المدى القريب، ستظل ترسم خطوطاً عميقة في الوعي العالمي، وستكتب في صفحات التاريخ أن إسبانيا، في زمن القتل والحصار، اختارت أن تكون في صفّ الحق. ومن هنا، فإن شعب فلسطين، بكل آلامه وصموده، يردّ التحية للشعب الإسباني.
إننا نرفع شكرنا العميق لبيدرو سانشيز ولكل مواطن إسباني وقف وساند ونادى باسم فلسطين. فالتاريخ لا ينسى المواقف، وذاكرة الشعوب تحفظ دائماً من صرخ في وجه الظلم وقال بجرأة: «العدالة لا تُجزّأ، وفلسطين ليست استثناء».