العروبة: هوية، قضية أم وظيفة؟ ..

Farid-khazen-1
حجم الخط

 

 
من ثوابت الواقع العربي منذ نحو قرن إلى اليوم، الاختلاف حول العروبة ومضامينها. ثمة عروبة للحكام، متصلة بالسلطة وبسياسة المحاور الإقليمية، وأخرى للمحكومين. الشعوب تجمعها اللغة والهوية الثقافية والتاريخ، بحسب التعريف المتداول للعروبة الذي أطلقه مفكرون بارزون، أكثرهم تأثيراً ساطع الحصري.
 
لم يلتقِ العرب على مضمون واحد للعروبة منذ نشوئها. عروبة الجيل الأول تلازمت مع النضال من أجل الاستقلال لا سيما في المشرق العربي، وكان حزب الكتلة الوطنية في سوريا في طليعة هذا التوجه، ومن أركانه رياض الصلح، رئيس حكومة الاستقلال في لبنان. عروبة الجيل الثاني جاءت أكثر راديكالية، منها الحركة التي قادها أكرم الحوراني الذي شكل مع ميشال عفلق وصلاح الدين البيطار حزب البعث العربي الاشتراكي في مطلع الخمسينيات. في تلك المرحلة كانت مصر خارج حراك العروبة المشرقية، ولم تتحول الى العروبة بحسب المفهوم القومي إلا مع عبد الناصر الذي أعطى القومية العربية بعدها النضالي والزخم الشعبي الكبير على امتداد الوطن العربي. وبعد وصول حزب البعث الى السلطة في العراق وسوريا في 1963 انشطر جناحين، إضافة الى الانقسام على مستوى القُطرين. وازدادت الهوة اتساعاً بين البعث وعبد الناصر بعد سقوط دولة الوحدة في 1961.
 
عروبة «مقاتلة» انطلقت بعد حرب 1967، وتمثلت بالكفاح المسلّح الذي ارتبط بالمنظمات الفلسطينية. جيل جديد من القادة العرب أطلّ على الساحة، أبرزهم ياسر عرفات، رافعاً راية الثورة بوجه الجيل الذي انتفض على «جيل الهزيمة» بعد نكبة 1948. عروبة ما بعد 1967 تمثلت بدعم العمل الفدائي بعد فتح الجبهات العسكرية في «دول الطوق» مع (إسرائيل). رحيل عبد الناصر في 1970 ترك فراغاً، أنتج تحولات باتجاهات مختلفة. وسرعان ما وقعت القطيعة بين مصر وسوريا بعد حرب 1973، ولم يعد النزاع العربي - الإسرائيلي مجدياً لجمع المتخاصمين داخل الصف العربي الواحد بعد معاهدة السلام بين مصر و(إسرائيل).
 
مع الحركات الإسلامية، التي أطلقت طرحاً منافساً للعروبة منذ مطلع السبعينيات، تبدّل المشهد السياسي الإقليمي. لاقت هذه الحركات دفعاً جديداً مع الثورة الإسلامية في إيران التي تبنّت أبرز مضامين العروبة، التصدي للاحتلال الإسرائيلي. ولم يبقَ متنَفس للعروبة في تلاوينها كافة سوى ساحة الحروب المفتوحة في لبنان، إلى أن اجتاحت (إسرائيل)لبنان في 1982 وأنهت الوضع العربي «الملبْنن».
 
عروبة لبنان حالة خاصة في ظل دولة «نأت بنفسها» عن المواضيع الخلافية، ومنها الهوية الوطنية. جاءت عروبة لبنان مقتصرة على «الوجه» في 1943، على أمل أن تمتدّ إلى كامل الجسد الذي ازداد هشاشة مع ازمة 1958 ولاحقاً مع الأزمات السياسية المعسكرة عشية اندلاع الحرب. وجاءت الوثيقة الدستورية في 1976 لتعلن عروبة لبنان، حيث كان الاشتباك على أشده بين دمشق ومنظمة التحرير الفلسطينية، ولكل من الطرفين «عروبته». ففي بدايات حرب 1975 كان هاجس بعض أطراف النزاع قطع الطريق على «تعريب» الأزمة اللبنانية. ولم يُحسم أمر الهوية في لبنان إلا في الدستور المعدل على أساس اتفاق الطائف الذي أعلن في مقدمته عروبة لبنان، هوية وانتماءً، بعدما بات لدمشق الكلمة الفصل في لبنان وعروبته.
 
إلا أن فضاء العروبة كان مفتوحاً، وظل الاشتباك قائماًً وأخذ اتجاهاً مغايراً مع الحرب العراقية - الإيرانية في الثمانينيات وغزو العراق الكويت. ومع الاحتلال الأميركي للعراق بات «الشرق الأوسط الجديد» منافساً للعروبة، وسقط الجميع في نزاعات لم تنتهِ إلى اليوم. في لبنان ما بعد الحرب، تلاقت دمشق والرياض تحت سقف العروبة، ولم تكن إيران، التي توسع نفوذها الإقليمي، عائقاً، إلى أن جاء الربيع العربي عاصفة جارفة للأنظمة. نزاعات الربيع العربي لم تكن صراعاً حول الهوية، لأي جهة انتمت، بل هي صراع داخل الدول بين السلطة الحاكمة ومجتمعاتها. عاصفة جديدة هبّت في اليمن، منبِت القبائل العربية منذ القدم، حيث أطراف النزاع جميعهم عرب أقحاح.
 
ازدادت الأزمة تفاقماً بعد اتفاق فيينا النووي بين أطراف لا رابط لها بالعروبة: إيران والدول الكبرى. وعلى رغم التمدّد الإيراني الإقليمي، فستبقى إيران فارسية والعرب عرباً، وكلٌ على انتمائه المذهبي والسياسي وسواهما. إنه صراع السلطة والنفوذ بين الدول، مثلما كان الصراع بين أهل العروبة، دولاً وجماعات، في مراحل سابقة. عروبة الوظيفة تطغى اليوم على عروبة الهوية، تحاكي المصالح لا القضايا. الوظيفة المستجدة للعروبة تفتقر الى قضية جامعة ولو نظرياً، وهي تبحث عن إجماع في صراع عمره من عمر تاريخ دول المنطقة وشعوبها. الإجماع العربي، في غيابه أو حضوره، لم يحلْ دون التدخل العسكري السعودي في البحرين في 2011 ولاحقاً في اليمن.
 
عروبة الجيل الأول جاءت رفضاً «للتتريك» والتغريب. الأجيال التي تلت رفعت لواء محاربة (إسرائيل). انطلقت العروبة مع الثورة الكبرى التي قادها الشريف حسين بوجه العثمانيين، والمطلوب اليوم عاصفة كبرى بوجه إيران الفارسية المتصالحة مع أميركا، حليفة رافعي لواء العروبة، بعد تصدّع ركائزها وتشتت غاياتها.