جاء الشتاء للمرة الثالثة على نازحين مكلومين لا يملكون من رفاهية الحياة شيئاً، ولا حتى من الأساسيات، نازحون خرجوا مكرهين من بيوتهم وقصورهم إلى العدم، حيث يعيشون في العراء داخل خيام هي عبارة عن قماش لايحميهم من برد الشتاء ولا حرارة الصيف، آلاف الخيام المكدسة هنا وهناك في كل مكان بقطاع غزة، تزيد في مناطق الوسط والجنوب، وعلى شاطئ البحر.
وحلت الكارثة التي يخافها المواطن ويخشاها، حيث أعلنت الأرصاد الجوية قبل عدة أيام عن أنَّ منخفضاً جوياً تنتظره فلسطين آخر الأسبوع، وبأنّ قطاع غزّة سيكون له حصة كبيرة من الأمطار والرياح والتقلبات الجوية، فما أنّ سمع السكان بهذا الخبر حتى وإنّ كانوا من محبي الشتاء، شعروا بنوع من الخوف والقلق والحزن، فسيناريو الغرق وسقوط خيامهم على رؤوسهم وغرقها بمياه الأمطار يلوح في مخيلتهم من جديد.
آلاف الخيام غرقت وتطاير بعضها فوق رؤوس النازحين من النساء والأطفال وهم نائمون والبعض الآخر استيقظ على مياه الأمطار وهي تُغرق فراشه وأغطيته التي تحميه من برد الشتاء فتركته خائفاً يشعر بالكثير من البرد وجسده يرتجف طيلة الليل.
خرج النازحون من خيامهم يصرخون ويستغيثون بالمؤسسات والمبادرين الذين جمعوا أموالاً باسمهم لإنقاذهم، وطالبوهم بإغاثة عاجلة وتقديم مأوى جديد لهم بالإضافة إلى أغطية وملابس بدل التي تم غرقها بمياه الأمطار والصرف الصحي.
بعضهم تلقى دعماً بسيطاً والبعض الآخر لم يجد أيّ آذان صاغية تنجده وتغيثه مما هو فيه، وكالة "خبر" كانت مع هؤلاء النازحين ترصد الكارثة التي حلت بهم ورسالتهم للمؤسسات الدولية والمحلية العاملة في قطاع غزة.
"بنطلب إغاثة عاجلة"
المواطن عامر حمودة من سكان مدينة رفح، نزح مُكرها لعدة مناطق حتى انتهى به الحال هو وزوجته بالنزوح على شاطئ البحر قبل خمسة أشهر، عامر وهو من ذوي الاحتياجات الخاصة ومريض بالقلب يعيش مع زوجته في خيمة مهترئة تكاد تسترهم في الصيف لكنها لا تصلح أبداً للحياة لأنّهم يعيشوا بها في جو مليئ بالعواصف والأمطار الغزيرة، فمع أول سقوطٍ للأمطار حتى غرق كل شيء بالخيمة بما فيه هو وزوجته، وبقوا على هذا الحال ليلة كاملة يناشدون ويستصرخون الضمائر الحية لإغاثتهم ولا أحد يستجيب، فأجسادهم المريضة ترتجف لساعات وهم يجلسون على شاطئ البحر يلتحفون بغطاء واحد مليئ بالمياه، فأصبحوا يتقيؤون ويصرخون من شدة الألم.
كانت لعامر وزوجته تساؤلات ومخاوف ومطالب يريدون من أصحاب المؤسسات الإغاثية الإجابة عنها، في الفيديو التالي:
أما نضال ادريس، ابن مدينة غزة، حاله كحال غيره من الغزّيين الذين نزوحوا مرة أخرى إلى المجهول، لم يجد مكاناً سوى البحر ليحط رحاله على شاطئه لعله يكون أرحم مما واجهه وعائلته من قصف وخوف وألم، أقام خيمتين له ولأولاده الأربعة اثنين منهم متزوجون ولديهم أطفال جميعهم يتكدسون في خيمتين مليئتان بالثقوب التي تُدخل عليهم مزيداً من البرد الذي ينهش أجسادهم كل ليلة، ومع تساقط الأمطار أصبحت المياه تجد سبيلها نحوهم من هذه الثقوب.
عدسة وكالة "خبر" كانت حاضرة في مكانهم لاستطلاع وجعهم المتمثل في خيمة، حيث لم يخلو بيت في غزّة من الشهداء والجرحى، وكل أسرة عانت من فقد عزيز وغالي، قدمت المرأة الفلسطينية زوجها وابنها وشقيقها وأبيها شهداء لهذا المكلوم، كهذه الأم التي فقدت زوجها وتركها مع ثلاثة أطفال لا حول لهم ولاقوة بعد أنّ فقدوا منزلهم وانتهى بهم الحال في خيمة لا تصلح لأنّ يعيش فيها الحيوانات، وهي عبارة عن بعض من النايلون والأغطية البالية وبعض من أدوات المطبخ التي تنحسر بصحن وطنجرة وملعقة، أطفالها عاشوا وجعاً كبيراً وخوفاً يضاهي خوفهم وحزنهم بعد ارتقاء والدهم بعد أنّ انقلب الجو وأعلنت السماء موعدها لهطول الأمطار الغزيرة والرياح التي اقتلعت ما تبقى من خيمتهم البالية، على خجل منا وبالكاد استطعنا أنّ نُخرج منها بعضاً من الكلمات التي تُعبر عن ألمها وأمنياتها، كان حديث الأم كالتالي:
أما أحمد وزوجته وطفله أمير الذي لم يتعدى العامين، لم ينسى أنً يضع بعضاً من الطناجر التي يستخدمها الناس للطهي هو يستخدمها في خيمته بوضعها تحت الثقوب الكثيرة لكي تتجمع فيها مياه الأمطار، ولأنّ أحمد لا يملك نقوداً لشراء خيمة أو شادر طرق أبواب مؤسسات عدة لمساعدته على تقديم خيمة تحميه من الشتاء والصيف، لكي لا يصبح مصير ابنه كمصير عشرات الآلاف من الأطفال في غزة ينامون تحت ماء المطر ترتجف أجسادهم وتمرض ولا أحد يُغيثهم.
يقول أحمد: "لم أنم طيلة يومين متتاليين وقت هطول الأمطار كنت أركض هنا وهناك أتفقد طفلي وزوجتي والفراش الذي ينامون عليه وكلما شعرت بالماء يدخل إليهم أسارع بوضع صحن أو طنجرة لأجمع بها مياه الأمطار بعيداً عنهم".
ويُواصل أحمد حديثه لوكالة "خبر": "في الليلة الثانية للمنخفض وقبل أنّ أنام لاحظت أنَّ ابني يغطي جسده ورأسه بشكل كامل تحت الغطاء فرفعت عنه الغطاء لأسأله لماذا يضع نفسه تحته، بعد أنّ كنت أتوقع أنّ يكون قد شعر بالبرد، لكنه فاجأني بالرد حين قال
(بخاف من المطر ينزل على وجهي يا بابا) هذه العبارة كانت كافية لتقتلني وتدمر نفسيتي، فصممت أنّ أطرق أبواب المؤسسات الدولية مرة أخرى لأجبرهم على مساعدتي بتوفير خيمة وأغطية لي ولابني وزوجتي، لكنهم كانوا يعدوني بتقديم الخيمة وها هو مر يومين على انحسار المنخفض ولا أحد أتى لزيارتنا وتقديم المساعدة، هم ينتظرون أنّ تحل المصيبة ويأتون لتصوير معاناتنا ليشحدوا علينا أكثر ونحن لنا الله ولا أحد سواه يمكن أنّ يرفأ بها".
نداء استغاثة
أحد المواطنين الذين خرجوا من بيوتهم دون أنّ يأخذوا شيئاً معهم يساعدهم على مصاعب الحياة من أغطية وشوادر وخيام أطلق نداء استغاثة للمتبرعين والمؤسسات الخيرية لمساعدته على توفير خيمة له ولأطفاله قبل أنّ تهطل الأمطار فتغرقهم وتتحقق الكارثة التي لا يحمد عقباها، فقال: "خيمتي عبارة عن شرايط لو مطرت الدنيا حنموت ونغرق، مافي معي فلوس أشتري شادر سعره 120 شيكل فما بالكم بالخيمة، أنا مامعي آكل، لاشغل ولا أيّ مصدر رزق ممكن يعيني على مصاعب الحياة".
وتابع في حديثه لمراسلة "خبر": "الخيمة بعيش فيها 7 أفراد ومنهم بناتي أطفال ما بيطيبوا من البرد في الليل، السقف ممزق مشان هيك نزلت علينا المطرة، وغرقت كل فراشنا ولولا عناية الله كان كل أطفالي الآن مرضى، لأنه بوقت المنخفض جارنا حس فيا وبمعاناتي وطلب مني أن أشاركه خيمته الكبيرة، بس لغاية ما يعدي المنخفض، فهو مشكور قسم خيمته بيني وبينه بشادر داخلي وكنا ننام فيها لغاية ما عدى المنخفض ولما رجعنا على خيمتنا لقيناها طبعاً تسوت بالأرض، طارت وتمزعت وأرض الطينة الي منصوبة عليها بهدلت كل شي، وبالعافية قدرت أنصب الباقي منها وبنام تحته، وما بقدر أوصف كمية البرد بالليل بتكون مش طبيعية ما بنصدق ينتهي الليل مشان تطلع الشمس ونحس بشوية دفا".
وختم حديثه قائلاً: "مابدي شي كبير.. بس بدي خيمة".

مواطن آخر يعيش مع زوجته في خيمة صغيرة هي مخصصة للرحلات والسفاري وليست للنزوح والعيش فيها أياماً وشهور، هذا المواطن يتوقع في كل ليلة أن تسقط فوق رأسه الخيمة أو تغرقه مياه الأطار دون أنّ يرف للمبادرين والمؤسسات جفن ويشعرون بالحزن على حاله، فكيف لمسنين يعيشان في خيمة لاتقيهم برد الشتاء وتغرقهم مياه الأمطار، أنّ يعيشا في خيمة مهترئة لا تنفعهم في فصل الشتاء ولا الصيف، حيث يتحدث عن آلامه في الفيديو التالي:
وليت الأمر متوقف على الأمطار والرياح بل تعدى ذلك بكثير، كارثة إنسانية يعيشها الناس في غزة بكل ما لها من معنى، فكمية الركام التي تجاوزت الـ70مليون طن، موزعة في كل مكان في القطاع ستزيد من مآسي الناس وانتشار الأمراض وبرك المياه والمستنقعات ستزيد من فرص الحاق الضرر بأطفالهم وبخيامهم أيضاً.
حسني مهنا المتحدث باسم بلدية غزة أشار إلى أنَّ 85% من البنية التحتية تضررت، بما في ذلك شبكات المياه والصرف الصحي والطرق والمرافق العامة والتعليمية والاقتصادية.
نداءًا عاجلاً
بدوره أطلق مركز غزة لحقوق الإنسان نداءًا عاجلاً للمجتمع الدولي والمنظمات الإنسانية لتوفير لوازم الإيواء والملابس الشتوية لآلاف النازحين الذين يعيشون في خيام مهترئة، محذرًا من تفاقم الكارثة الإنسانية مع اقتراب فصل الشتاء.
وأوضح أنَّ عشرات آلاف الأسر لا تزال تقيم في خيام مهترئة لا تقيهم برد الليل ولا أمطار الشتاء وهي محرومة من احتياجات الحياة جراء الحصار بعد أكثر من شهر على وقف إطلاق النار.
وأشار المركز إلى انعدام شبه كامل لمواد التدفئة وغياب البنية التحتية اللازمة لتصريف مياه الأمطار في القطاع، لافتاً إلى أنّ 945 ألف شخص يعيشون من دون حماية كافية في القطاع.
ويبقى المواطن في غزة محصوراً بين كماشة الاحتلال الذي يغلق المعابر ويسمح بالقليل من المساعدات للدخول والتي بالكاد تُغطي ربع سكان القطاع، وبين سندان المؤسسات الخيرية المحلية والدولية التي اتهمها المواطنون بعدم المصداقية والعدالة في التوزيع، فبينما يستفيد المئات من السكان من هذه المعونات، يُحرم الآلاف من رؤيتها والاستفادة منها.
