متى ينام الإسرائيلي قرير العين..!!

الكاتب حسن خضر
حجم الخط

مهاجرون تعترضهم أسلاك شائكة على حدود بلدان أوروبية أصابها الذعر. هذا مشهد مألوف يراه الناس على شاشة التلفزيون هذه الأيام. أتوقّع أن شخصاً ما، في إسرائيل، يراقب المشهد بمزيج من النشوة والذعر.

نشوّة مَنْ نجح، أخيراً، في التدليل على صدق ما قاله، من قبل، عن العرب وعالمهم المريض بدكتاتورياته، وعصبياته الطائفية والقبلية، وشطحاته الدينية، وكراهيته للأزمنة الحديثة. ويزيد من نشوته أن العالم العربي، الذي ناصبه العداء، يتهاوى كقطع الشطرنج على رقعة بللها الدم. أما مصدر الذعر فمصدره اطلاع على حقائق الجغرافيا السياسية، ومكر التاريخ، الذي يبدو في نظره جزءاً من تراجيديا الوجود الإنساني نفسه، فاليهودي، كما أنجبته الأزمنة الحديثة، في سياق تجارب مريرة، وأعادت الصهيونية حشره في الثوب الضيّق لهوية إسرائيلية في طور التكوين، ينحاز لأكثر السيناريوهات سوداوية، حتى وإن ابتسم الزمان. لذلك، ينسى لبرهة من الوقت، أن حواجز الأسلاك الشائكة في أوروبا، ويتأمّل سيناريو وجودها على حدوده، وتحت نافذته، وفي حجرة نومه، وإذا شئنا الاستطراد في تجليات العُصاب، فلنقل تحت ثيابه، أيضاً.

ولو تخيّلنا أن كائناً فضائياً نظر إلى كوكب الأرض، من قبّة السماء، فلن يرى في طوابير الهائمين على وجوههم، هذه الأيام، على حدود بلدان أوروبية مختلفة، والغارقين في قعر البحر، والقابعين في معسكرات اللاجئين، جديداً. فهكذا كان الحال، دائماً، على مدار آلاف مؤلفة من السنين، هجرات في أربعة أركان الأرض، هرباً من الجوع، والحرب، والأوبئة والطواعين، أو تنفيساً لاحتقان نجم عن زيادة الكثافة السكانية في رقعة جغرافية محدودة المساحة والموارد، وطمعاً في موارد الآخرين، ولعل في هذا ما يختزل كل تاريخ الغزوات، والإمبراطوريات، والديانات. فالدولة الإسرائيلية، نفسها، نجمت عن موجة مهاجرين، بعدما ضاق الخزّان في أوروبا الشرقية والوسطى، في القرن التاسع عشر، على يهود وجدوا أنفسهم بين مطرقة إنشاء هويات جديدة، مُتخيّلة، وجامعة لمواطني الدولة القومية الحديثة، وسندان التمركز الحضري، وانهيار المهن التقليدية، ونمط العيش القديم. في ذلك الحين، ضربت موجة مليونية من المهاجرين اليهود سواحل القارّة الأميركية، ومنافذ أوروبا الغربية، وشواطئ المتوسط، وتناثر منها رذاذ خفيف على ساحل فلسطين.

ولكن المشهد الختامي، في الحرب العالمية الثانية، الذي وضعت الاستيهامات النازية المجنونة ملامحه الرئيسة، أخرج هجرة اليهود من أوربا الشرقية، والوسطى، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين، من السياق العام لتاريخ الهجرات، وأضفى على السردية الصهيونية مهابة الرواية التاريخية. ولنتذكّر أن موجة الهجرة التي نراها، هذه الأيام، على شاشة التلفزيون، هي أوّل هجرة حيّة بالصوت والصورة في التاريخ.

وهذا ما يجعل منها شأناً شخصياً إلى حد ما، وجزءاً من الصور والانطباعات، التي تؤثث الحياة اليومية لا لمستهلكي الأخبار والمعلومات وحسب، ولكن لكل إنسان، في الكون، يقضي ساعة في اليوم أمام شاشة التلفزيون، أو على شبكة الإنترنت. لذلك، يبدو ما حدث في أوروبا قبل سبعين عاماً وكأنه ينتمي إلى زمن بعيد، رغم أن المسافة مجرد برهة تافهة في تاريخ الزمن، فقبل سبعة عقود هام على وجوههم في طرقات ريفية نائية، وعلى أطراف مدن فتكت بها الحرب، وفي معسكرات مرتجلة للاجئين، ملايين من الروس والألمان والأوكرانيين والبولنديين، وغيرهم، بحثاً عن مأوى، وعن خاتمة للمصير.

بمعنى أن ما نراه الآن ليس فريداً، والأهم من هذا وذاك، أنه قابل للتكرار في كل مكان من العالم. وهذا، أيضاً، ما يعرفه إسرائيلي يجلس، الآن، قبالة شاشة التلفزيون، ويتأرجح ما بين نشوة غامرة، وذعر يُوّلد إحساساً بكارثة محدقة. فحتى لو رحل ملايين من العرب، وانهارت دول، وتغيّرت خرائط، سيبقى في الشرق الأوسط ملايين منهم، وهؤلاء مصدر خطر دائم، بحكم الديموغرافيا، والجغرافيا السياسية، طالما أن الجوع، والهرب من الحروب والكوارث، وضيق المساحة، وندرة الموارد، والخوف، والطمع، وما تُولّد هذه كلها من استيهامات دينية وقومية، أقوى وأشد فتكاً من أيديولوجيا تحرير فلسطين. إسرائيل كانت، ولا زالت، على الرغم من القنبلة النووية، والاقتصاد القوى، والجيش المؤهل، والتكنولوجيا، تعيش في الشرق الأوسط، وفي آسيا الغربية، المعمورة بعرب وأتراك وإيرانيين، لا يكفون عن التكاثر، وافتعال العداوات، وإدمان مُنشطات الذاكرة، وحتى أفريقيا السوداء لا يمكن شطبها من قائمة التهديد، ولا يعرف أحد كيف ستكون الخرائط، وحدود الدول، وموازين القوى، بعدما يعلو نجم الصينيين، والهنود، والنمور الآسيوية، ويخبو نجم الأوربيين والأميركيين، في هذا الجزء من العالم.

وماذا عن الفلسطينيين، وهم تحت النافذة، والجلد، وفي غرفة النوم، وعلى السياج. هذا سؤال الأسئلة. وبقدر ما تثير مشاهد لاجئين هائمين على طرقات أوروبية نائية، مشاعر النشوة والذعر، فإنها تحض على التفكير والتدبير. وبقدر ما يتجلى من دلالات في سلوك الإسرائيليين، لا أعتقد أن ثمة إجابة واضحة، فالإسرائيلي يعيش بين خوفين، في آن: الخوف مما فعله به الآخرون، والخوف مما فعله بالفلسطينيين. وكلاهما يُعطّل إمكانية الحل. وطالما نحن في معرض الكلام عن الحل، فلنذكر أن الإسرائيلي لا يؤمن بوجود حلول دائمة، فأفضل حل دائم، في نظره، هو المؤقت. لذا، يرقب شاشة التلفزيون مصاباً بالنشوة والذعر في آن، وكلاهما من إكراهات وضرائب المؤقت، فمن يدري لعل معجزة، بعد سنوات قد تطول أو تقصر، تمكنه من إخراج الفلسطينيين من تحت النافذة، والجلد، وغرفة النوم، وسياج الحديقة، عندئذ سينام قرير العين.