المتوكل طه " يا عائشة ما أجمل العاشق الفلسطيني "

317059A
حجم الخط

تغريك الصفحةُ البيضاء، فتعلو إليها بالرصاص اليانع، لتفوح رسمةُ البلاد؛ من الكرمل إلى عباءة القِرفة، ومن الليمون إلى تلال القمر.

لعلكَ تريدها أن تنبسط أمامك دون حواجز وأسوار عنصرية، وبلا مقابر جماعية أو إبادة للأقواس والساحات.

لعلكَ تكره البَطل الذي نما فيك، وتريده أن ينتهي من مهمّته الخُرافية، ليبدأ زمن الفراديس على هذه الصفحة المدمّاة، لترجع بشراً عاديّاً يأكل العكّوب، وينام على فَوحَان الكستناء، ولا يبهظه طول الانشغال بأولئك الضحايا الذين يتكاثرون، كُلّما رفع الحاخام قُبَّعَته فوق طوفان الجثث التي أُتْخِم بها. ولعلكَ تريدُ أن تتخلّص من شظايا الزجاج المطحون الذي يسمّم صدركَ، لكثرة ما دفعوك إلى كراهية الأموات، وهم يدورون كالأشباح بين البيوت، ليأخذوا رضيعاً من ضلوع الصوف.

ولعلكَ مَلَلْتَ قتال الشائهين، الذين ضاق بهم البرّ والبحر ليمنعوك من مدينتك البيضاء. وتريد أن تستريح تحت عريشة الضحى دون ضجيج.
ولعلكَ لم تكمل سيناريو ما بعد الحرية، لأنهم غرزوا في ظهرك رُمح الغَدْر، وأعشوا عينيك بِمُسيلات العار، وانكشفوا أمامكَ كما هُم، تماماً، وحوشاً بشفرات شائخة تخثّر فوقها دمُ الطير البريء.
***
الوطنُ اسمٌ للسماء، وهو الحياة، بكل حمولتها لأبنائه، على اختلافهم ومقارباتهم، ويظلّ جميلاً على كل حال.
أمّا الأكثر جَمالاً فهم أولئك الوطنيون الذين يعيدون للوطن حياتَه، ليظلّ أرضاً للقشعريرة والمناديل والاطمئنان.
فما أجملكَ ! وانتَ تؤصّل في الوجدان لباء الطين بسماوات لا نهائية، وأحلام لا تقتل أصحابها الطيّبين.
***
حال المدائن من حال بلابلها وشنّارها وعصافيرها. باختصار؛ البلاد تشبه طيورها. فإذا جنّحت كما شاءت، وبَنَتْ أعشاشها على أهوائها، وغرّدت على أفنانها، وضمّت زغَبها في الوكنات، رغم مزاج الفصولِ، فهذا يعني أن أكتاف الأزقة تعبق بالنرجس، وأنّ الحوش تجلّله الجدّات بالحكاية المستحيلة، وأنّ الراعي يعود وهو يلوّح للذئاب باللقاء، وأنّ النجمة ستجد طريقها الخفيّ إلى صدر الكمّثرى، وأن المرايا تعمّ بالسِحر وطيّات العرق، وأن الحنين سيصل إلى نداءات المساطيح، لترقص أعراف الحصان، ويضرب بحافره الكهرماني أرض العيد.
فَيَا أيّها الذيّال! تناسخ نيازك في غلالات اللانهاية المُشرعة، وافْهَقْ في شوارع المجّرات .. لتصحو .
***
كرنفال السنابل في بيتك حلّ قبل الحصاد.
تفتحتِ السنابلُ، وانثال الحَبُّ على المصطبة، وامتلأت الخوابي، فاستيقظ أجدادك الأوّلون، بقاماتهم المنصوبة، يحملون مناجلهم المصقولة، ووقفوا مرصوفين حول الكرنفال، كأنهم يحرسون سبيكة إلهية من ذَهَب السماء.
صعد الصغير من وسط البيدر، ويبدو أن رافعةً لا تُرى تعلو به فوق كومة التِبْر المذرور. فيه من ملامحهم ما يتوّجه هالةً من خلائقهم، وراح يشقّ طريقه نحو شباك النُّور، فأوسعوا له الطريق، وهم شاخصون بخطواته التي تَعالت، إلى أن حطّ على أوّل الكوّة، فَفرَدَ ذراعيه .. وساحَ في السطوع.
***
يدقُّ عِرقُ الرّقبة، وتستنفرَ قواكَ المُعطّلة، وتلفّ ألف مرّة حول الكوكب، لتجد طريقةً ترشدك لإخفاء المسدس والرسالة!
أضواء الدوريات تفشّى، والكشّافات تجعلُ هزيع الخريف حريقاً مدوّياً، والجنود بأثوابهم الحديدية كالدببة يطوّقون الحارة، وعلى البوابه قَبضَاتٌ وصَخب ورَطْن وضوضاء !
يدخلون بلا هدى، وينتشرون في الغُرف والمطبخ والصالة والشُرفة، يفتّشون كل شيء ويقلبون كل قائم ونائم .. ولم يجدوا شيئاً !
***
تستيقظ عائشةُ من نومها ريّانة راضية. تتثاءب بكسل ماتع، وتكدّ ضفائرها المبلّلة بالطلّ والغار، وتتحسس احتكاك الرّعد بالقرنفل، وتتأكد أنه جاءها بالوَشْم والكحل .
وتنهض لأحفادها، تعدّهم للصباح والدّرْس، وفي بالها قصّةٌ، لن يصدّقها سوى غائب لن يعود.
***
الثورة إحساس فرديٌ بالقهر. هكذا تبدأ، لكنها تتواصل بالتقاء المقهورين، ليشكّلوا جداراً صلداً محيطاً، من صوّان الإرادة، ليصدّ غوائل الحثيّات، التي أيقظها مصاصُ الدماء بعصا الوَهْم والعُقَد المبتذلة، ودفعها لتخترق الحجارة الملتحمة بالأرض والسماء، وناطحها لينفذ منها إلى أمْسِه المُلَفَق الهجين.
وما زال الغريب الساكن في البارحة، يسوّق صورته، التي حزّ فيها رقبته بسكّينة الوثنية، ليبكي العالم على الضحية، ويمرّر مشهده الخائب، وتنسى الدنيا الذبيحَ الأوّل، الذي لوّن بدمه أقواس الآفاق. لكنّ العَمى لا يتيح لصاحبه إدراك النبع الحرام المتدفّق في شوارع كل قرية ومدينة، وفي ثوب كل حاملٍ، يسقط ملحُ فخذيها على أسنان الحديد المدبب، في ألف حاجز وليل.
***
لا ينام بعيداً عنها، كان يغفو وهو في حضنها ! بل كان يشقّ جِلْدها وينسرب تحته، ليتماهى مع أوردتها وأعصابها، كأنه يعود جَنيناً فيها.
لا !
ينام على حافة السرير، كأنه ينأى عنها، يدير وجهه، والقلق يفجعه ويمزّع وجهه ورمانة قلبه، لا يحنو ولا يطوّقها بذراعه ولا يشرب أنفاس التفاح.
مثلما يكتفي بأنْ يربت على ظهر ولدٍ أو يمسح وجنة ابنةٍ، ولا يجايلهم بدغدغاته وقُبلاته وتمريغ لحيته على وجه الحليب.
ربما ! كان في الأولى يعوّضهم عن غياب حاضرٍ وآخَرَ على الطريق.
وكان في الثانية لا يريد لهم أن يعتادوا على مرحٍ .. ويروح فجأة !
***
ما زلنا بعد عقود وعقود نستعيد تلك الحكايات، وما زال الأخوة يفصّلونها كأول مرّة يقولونها على مسامع الحضور، وما زال دمعهم يتجمّد فوق عيونهم، كأننا أمام صورة نحتفظ بها لأنفسنا، عسى أن نرى صورة أخرى، أكثر جمالاً للألبوم.
***
يا عائشة يا اسم العسل والنار والندى الذي انجبل فأصبح قوام المرأة، التي تصهل في صدرها الخيول، وتفحّ في ذراعيها الحمائم، وتتفجر الينابيع الجوفية من جدائلها.
يا عائشة ! يا سرّ اللؤلؤة المختومة، التي أكملت ضوءها تحت عباءة الغيم وتفتحت نجوماً ذهبية في الحقول. يا عائشة ! يا نداءنا في الدمع وجروحنا في الناي وشهوتنا في الجرار . يا أُوار الماء في الليل ويا نرجسة الفصول وموقدة الوجاق . يا عائشة ! يا جرحنا المبذول للشتاء، حتى ترتوي الهامة والفرس . يا جرس البعيد وصورة الجدار وشال الحرير الذابح في غربة السنين، يا عائشة ! يا حروف الجائح والثاكل، ويا نبل اليتيم الذي يتغيّا من الفراغ يداً تمسّد رأسه وتحضن أوجاعه الغامضة. يا بيتنا المفتوح منذ قرن للزغاريد المقتولة ويا فرحتنا المرتقبة، ليعود المفتاح إلى البيارة والبحر. يا عائشة ! يا شجن الصوّان ويا نعاس الصبر الذي هدّه الحديد والغبار. يا انتظار المعجزة الأكيدة لنتحلّق حول أُمنا ثانية، وهي تخضّ القمر ونرتوي من حليب التين، ونشرق بدمِ الرمّان .
يا عائشة ! يا مواويل الرّهام، الذي يضمّخ السواحل ويزوّج السرو والحمام. يا زوغان المهاجر يهتف في الليل والصقيع والنسيان . يا حقيبة الصغار وتلاوين العيد وبراءة الرسائل المخبأة . ويا طرحة الحصاد وانفراط البيدر تحت رخام النحيب.
يا عائشة ! يا مليون شاهد في كل اتجاه، ويا بوصلة واحدة للزيتون وثدي الأرض الأقرب إلى السماء . يا عائشة ! يا انفعال العصافير حول حابون العصر الزاخر، ويا رجوع العتبات والنعناع وحبق الأماسي في الطرقات . يا عائشة ! يا رحماً يلد الجبال ويمور بالوديان ويذرعها بالظباء، ويصعد إلى التلال بفضّة الحصان المجنون . يا عائشة ! يا أبجدية الذين سيعودون كاملين إلى الرواية، ليتجلّى النبيّ مرةً أخرى، بمنجله، ولا تعلو به الريح إلى الجُلجلة . يا عائشة ! يا نوْمتنا المؤقتة لنصحو على العُرْس والمهرجان، وننعف الأرز على الزفّة المطهمة، والطفل يتراءى لنا في الحضور .
يا عائشة ! أكملي زينتك، فإن الصغير يحفظ القصيدة كاملة دون نقصان..