تنعكس أشعة الشمس عن قطرات الماء التي تغمر شوارع المدينة في الصباح الذي انجلى نوره بعد أمطار ليل طويل انهمرت دون توقف وبكثافة رافقها ضباب حسر أنوار أعمدة الشوارع التي ما لبثت أن انطفأت مضيفة مزيدا من الظلمة والرهبة .
تتسلل بعض نقاط المطر من خلال شقوق في اسبست الشوارع الذي يغطي مداخل الحوانيت على جانبي الأرصفة لتسقط على رؤوس المارة تزيد في الشعور بالبرد والقشعريرة ، ومن تحت مظلته التي يرفعها فوق رأسه اتقاء للمطر يتطلع عباس الى أبواب الحوانيت المغلقة التي اعتاد بعضها أن يفتح مبكرا ولو دون بيع او شراء ، الا أنها عادة كبار السن الذين يستيقظون مبكرين ولا يعودون الى النوم ليكسروا ملل الوحدة داخل بيوتهم .
وصل إلى دوار الشهيد ثابت ثابت ، قلة من المارة يتراكضون ليحتموا من زخات المطر القوية المتواصلة دون انقطاع مع أصوات الرعد التي تجلجل وتخترق قنوات استاكيوس وتمنع وصول أصوات أخرى الى الأذن الوسطى .
تقف سيارة داخل محطة الوقود تملا خزانها بالبنزين ثم تنطلق وهي تنفث دخان عادمها بكثافة حتى يختلط مع أمواج الضباب ويملا المكان برائحته النفاذة. طلاب المدارس وصلوا الى أماكنهم على مقاعد الدراسة الا أن ثمة من تأخر او حاصرته الأمطار قد تراه يغذ الخطى نحو مدرسته بسرعة تختلف عن بلادته وتسكعه بعد الظهر وقت العودة من المدرسة .
أحد المطاعم قرب دوار جمال عبد الناصر يفتح التلفاز على تلفزيون الفجر الجديد الذي يبث برنامج طلة فجر وتسمع ضحكات مقدمٌي البرنامج الذين يهيأ لك أنهم يجافون الحقيقة كثيرا عندما يصفون وضع البلد بأنه جميل ومريح والناس مبسوطة وسعيدة وحياتهم تملأها السعادة والغبطة والفرح ، رغم أن الوضع قاتم والحياة صعبة والناس بالكاد تحصل على قوتها اليومي وتنتشر المخدرات والخمور والفقر المدقع واليأس – ببساطة الوضع متفجر والبارود تنقصه الشرارة .
أطلت امرأة ترتدي ملابس الصلاة من برندة منزلها في الطابق العلوي وأشارت لشاب في الشارع وهي ترمي له بورقة التقطها بسرعة وجرى اتجاه بسطات الخضار في نفس الوقت الذي صرت فيه عجلات سيارة مسرعة الشارع مستغلة خلوه من المارة في مثل هذا الوقت ويبدو على سائقها ملامح الاستهتار، "أكيد محشش" فكر عباس وهو يتابع السيارة بنظره بعد أن صكت عجلاتها إسفلت الطريق مرة أخرى وهي تستدير إلى اليسار وتنطلق مبتعدة بسرعة كبيرة وقيادة متعرجة .
انطلقت فجأة موسيقى أجنبية صاخبة اخترقت أذني عباس فجفل وهو يرى جهاز التسجيل المعلق على عربة احد العتالين التي يجرها بيد ويشير بيده الأخرى بحركات غير لائقة لم يعرف لمن كان يوجهها، "أكيد محشش" .
صعد الى سوق البسطات القديم ، نسوة يفترشن الأرض ويجلسن خلف ما يبعنه من حشائش كالميرامية والنعناع وزعتر البلاط واللوف واللسينة والزمطوط ... إحداهن تمسك سيجارة بين شفتيها وتنفث دخانها من منخريها وهي تتابع الدخان المتصاعد الى السماء على شكل حلقات مستديرة في نفس الوقت التي تخلع فيه نعلها وتضعه على الأرض أمامها، "أكيد محششة" . وفي اتجاه المسجد القديم تعثرت امرأة بعد أن داست على طرف ثوبها الطويل الذي يجر على الأرض فسقطت وتطاير ثوبها وبدلا من تقوم بسرعة وتستر نفسها أخذت بالبحث عن شيء سقط منها ، فجاس عباس الأرض بنظره فوجد نصف شيكل سقط منها فسلمها إياه ثم انطلق في طريقه وهو يهمس " أكيد محششة" .
استمر في سيره واقترب من نهاية شارع الذهب باتجاه الجنوب ، انقطع المطر تماما في هذه اللحظات ، وعندما وصل الى كراج فرعون لفت انتباهه أربعة أشخاص يلتفون حول شاب يجلس على الأرض الرطبة وهو يمسح بإصبعه على الأرض ثم يلحسه, عرفه عباس على انه احد المجانين الذين يملئون شوارع المدينة ويزداد عددهم كل يوم انشطب فجأة بعد أن كان يعمل ممرضا . ارتفعت ضحكات المحيطين به وهم يحاولون مضايقته والضحك عليه ومد احدهم يده وضربه على رأسه عدة ضربات خفيفة محاولا إضحاك الآخرين لرؤيتهم ردة فعله وهو يدافع عن نفسه ويصدر اصواتا قد يختلف تفسيرها من شخص لآخر، " أكيد محششين".
تجاهل عباس كل ذلك وانطلق صاعدا ليمر من ساحة كانت سوقا للرابش بمحاذاة المسجد القديم مرة أخرى ليصل الى مفرق الشاهد . الطقس بارد وريح خفيفة باردة تلسع رأسه وتشعره بالقشعريرة، لم يسمع كلام زوجته وارتدى ملابسه على مزاجه رغم أنها حذرته من عدم تناسقها وصلاحيتها لفصل الشتاء. مر بجانبه شاب يسرع في سيره لم ينتبه لبركة صغيرة من الماء داس فيها فتطاير الماء في كل اتجاه وأصاب بنطال عباس الذي شتمه في سره وأحنقه تجاهل الشاب ما فعله واستمر في سيره كأن شيئا لم يحدث ،"أكيد محشش". وقف مكانه يراجع كل ما مر معه خلال هذا الصباح ولم يعد يعرف إلى أين يذهب ، ملابسه مبتلة وتسلل الماء من خلال حذائه المثقوب الى قدميه فارتسمت ابتسامة على وجهه ولوح بيده وارتفع صوته ليقول " الله يستر الناس ، محششين من غير حشيش والوضع مزري والبلد خربانة".
انتبه الى أن احدهم ينظر إليه وهو يبتسم"شو يا عباس ، مالك بتحكي مع حالك ؟."صبحت محشش ؟" لم يرد على الأستاذ مسعود وأسرع في مشيه كي يبتعد عنه وعن لسانه السليط ، فانطلق باتجاه المستشفى وهو يتطلع الى ساعته التي تجاوزت الثامنة والنصف ، لقد تأخر عن دوامه ، وقبل أن ينزل في شارع باريس باتجاه مكان عمله ، توقفت سيارة قربه وخرج رأس مديره في العمل من نافذتها وحدجه بنظرة من أعلى الى أسفل وصرخ عليه قائلا " ليش متأخر ، وليش لابس هيك؟"
تطلع الى أسفل وهو يرى قميصه الذي تزينه بقعة سوداء قذرة في وسطه تماما وكأنما نزلت صاعقة على رأسه وهو يرى فردتي حذائه لكل منها لون مختلف . لعن نفسه ولعن زوجته وهو يقول لنفسه