أظهرت مصر قدراً كبيراً من الحكمة بل والحنكة السياسية، باستقبالها وفد حركة حماس، قبل أيام في القاهرة، بعد أن كانت حركة حماس قد أظهرت قدرا كبيرا من الانضباط والتعقل في رد فعلها، على ما كان قد أعلنه وزير الداخلية المصري اللواء مجدي عبد الغفار، من وجود لعلاقة ما لـ «حماس» في عملية اغتيال النائب العام المصري السابق، المستشار هشام بركات.
وبغض النظر عن صحة القول بان الزيارة كان مرتبا لها قبل ذلك الإعلان، من عدمه، فان المهم هو ما حملته تلك الزيارة من دلالات وكذلك ما نجم عنها من تفاهمات أو اتفاقات، والزيارة بحد ذاتها مهمة لأنها جاءت بعد قطيعة بين «حماس» ومصر منذ أكثر من عامين، أي منذ عزل الرئيس المصري / الإخواني السابق محمد مرسي العياط، لكن حجم أهميتها يرتبط أيضا بالمستوى الذي كان عليه الوفد الحمساوي، كذلك المستوى الذي كان في استقبالهم على الجانب المصري .
لا بد من التفريق أولا بين دول تتعامل مع أحزاب وفصائل، وهي هنا، عدد من الدول العربية والإقليمية وقليل من الدول الأجنبية التي تعتمد علاقات خاصة، أو تستقبل عادة الأحزاب والفصائل، خاصة على الصعيد الفلسطيني، فمنذ أن تشكلت م ت ف، ومن ثم السلطة، والدول تتعامل على المستوى السياسي مع الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني وهو م ت ف والسلطة، وقليل من الدول التي لها نفوذ إقليمي التي لها علاقات خاصة مع بعض الفصائل الفلسطينية، توظفها عادة، من اجل تحقيق مصالحها وطموحاتها الإقليمية، منها : إيران، سورية، تركيا، قطر، فيما الأردن مثلا، لا يفعل مثل هذا الأمر، ولا يتعامل إلا مع السلطة والمنظمة، أما مصر والسعودية، فعادة ما تقوم بإخبار السلطة والمنظمة، حين توافق على استقبال وفود من الفصائل، وحين تفعل، فإنها تقوم بذلك بمستوى أدنى من المستوى السياسي الأول، لذا يمكن القول بان استقبال مصر لوفد «حماس» قبل أيام كان استقبالا على المستوى الأمني، ولم يحمل أية إشارة أو دلالة سياسية، تشير إلى أن مصر تتعامل مع حماس على أنها «ممثل» لقطاع غزة مثلا، وإلا لكانت استقبلت «حكومتها»، وهذا يفسر، لماذا دائما ما كانت وفود «حماس» لمصر تقتصر على قيادة الحركة، ولا تضم أيا من رموز حكومتها في غزة.
تناقلت الأخبار أن ما جرى بحثه في اللقاء مع رئيس جهاز المخابرات المصري الوزير خالد فوزي، هو نفي «حماس» عبر مذكرة، صلتها باغتيال المستشار هشام بركات، كذلك نفت أن تكون لها أية صلة بالهيكل التنظيمي للإخوان المسلمين، وأكدت على عدم التدخل بالشأن الداخلي المصري خاصة في سيناء، ما يعني بان هذه الأمور كانت هي مدار البحث والحديث، فيما يبدو قبل أن تصدر المحكمة المصرية قرارها القضائي في اغتيال بركات، وهذا يعني بان مصر من جانبها تريد ضبط الجانب الأمني من الحدود مع غزة، في حين أن مطالب «حماس» تلخصت في وقف ضخ المياه في الأنفاق الحدودية، وفي فتح معبر رفح البري، وإقامة ميناء بحري في غزة.
أي أن حدود التوافق بين الجانبين تتمثل في مساعدة «حماس» لمصر في تحقيق الأمن في سيناء وداخل مصر، مقابل تخفيف الحصار عن «حماس» وغزة من الجانب المصري.
مهم جدا برأينا ما أشارت له أوساط «حماس» من وجود دور وتأثير سعودي من اجل استقبال الوفد الحمساوي في القاهرة، لأن ذلك يشير إلى محاولة لدفع «حماس» للقيام بدورة انتقال ثانية بين أضلاع مثلث المحاور الإقليمي في المنطقة، فبعد أن قامت «حماس» بالانتقال من محور إيران / سورية لمحور تركيا / قطر، هناك محور السعودية مصر، والذي هو على قدر من الخصومة مع محور إيران / سورية، ومن الاختلاف خاصة حول ملف إخوان مصر، مع محور تركيا / قطر.
ذهبت «حماس» لمصر تحت طائلة الضغط، ليس بسبب اتهام وزير داخلية مصر لها بالتورط في اغتيال بركات وحسب، ولكن بعد أن فشل حتى اللحظة محور تركيا / قطر في إيجاد حلول لمشاكل «حماس» في غزة، فقد فشلت تركيا في كسر الحصار منذ عام 2010 عبر السفن، ومن ثم بمحاولة إنشاء ممر بحري يصل غزة بقبرص التركية، كذلك فشلت قطر أو ترددت في منح «حماس» الأموال التي تعيد إعمار غزة وتوفر الرواتب لموظفيها، وحتى في حل مشكلة الكهرباء، لذا فان انتقال «حماس» لمحور السعودية / مصر، يحل مشكلة الحصار عبر مصر، وكذلك يمكن للسعودية أن تحل مشاكل «حماس» المالية.
أما السعودية ومصر، فتحتاج الأولى لـ «حماس» لتعزز نفوذها الإقليمي من اليمن لسورية، وتعزيز قيادتها للسنة في المنطقة، في مواجهة المحور الشيعي والمحور السني المنافس، أما مصر، فان وجود وفد «حماس» في القاهرة يعني اعترافا صريحا بثورة 30 يونيو وبشرعية الرئيس السيسي، ما يضعف من موقف تركيا وقطر، اللتين ما زالتا تصران على شرعية الرئيس الإخواني، فها هي «درة تاج الأخوان» حركة المقاومة، «حماس» تعترف بشرعية السيسي، إضافة لذلك، فإنه إذا كان صعباً على «حماس» أن تنتقل من جيب تركيا / قطر إلى جيب أبو مازن مباشرة، فإنه من السهل عليها أن تنتقل لجيب السعودية / مصر، وهي حركة اعتادت على وجود «حاضنة» إقليمية لها منذ نشأت، كذلك فان مصر تحقق «دعما» امنيا في مواجهة «بيت المقدس» في سيناء، والأهم، أن مصر تتوقع بان تؤدي خسائر «داعش» وتراجع نفوذها في العراق وسورية، وتركيز كل الفرقاء (بقيادة روسيا وأميركا) بعد الهدنة في سورية للحرب عليها، إلى أن تذهب، كما فعلت «القاعدة» سابقاً، إلى مكان آخر، ربما سيناء وربما شمال أفريقيا (تونس وليبيا) أي إلى حدود مصر الغربية، بما يعيد مشهد إقامة الدولة الفاطمية قبل نحو ألف عام، من القيروان/ تونس إلى مصر!