بعد مبادرة الرئيس والحكومة التي استجابت لبعض مطالب المعلمين، قرّر المعلمون تعليق الإضراب المستمر منذ أكثر من شهر. كان الإضراب علامة بارزة في النضال المطلبي من حيث قدرته على حشد معظم المعلمين رغمًا عن اتحادهم الذي تخلى عنهم منذ البداية، ولجهة تعنت السلطة، ولا أقول الحكومة فقط، وإصرارها على رفض مطالب المعلمين، إضافة إلى تخلف المنظمة عن نصرة المعلمين، بل لعبت دورًا في التحريض عليهم، وسقوط معظم الفصائل في الامتحان، خصوصًا «فتح»، بالرغم من أنّ معظم المضربين وقياداتهم من أعضائها وأنصارها، وأخيرًا لقدرة الإضراب على حشد تأييد مجتمعي متزايد، إذ شارك في المظاهرة الحاشدة يوم الثلاثاء 5 آذار عدد كبير من الطلبة وأولياء الأمور ومن قطاعات شعبية مختلفة، ما يشير إلى إمكانية تصاعد الإضراب ليصبح من إضراب للمعلمين إلى هبة شعبية ضد تعنت السلطة وتنكرها لحقوق المعلمين رغم اعترافها بأنهم محقّون في مطالبهم.
ما تحقق هو كرامة المعلم، وهي أهم من تحقيق مطالبة، فقد بات المعلم قادرًا على تحقيق ما لم يتحقق منها إذا استوعب دروس الإضراب.
في ضوء ما سبق، ما هي أهم دروس الإضراب:
الدرس الأول، إنّ الحقوق تنتزع ولا توهب ولا تقدم مكرمة من حكومة أو ملك أو رئيس، وحتى تتحقق المطالب لا بد من الإيمان أولًا بأنّ لا يحكّ جسمك إلا ظفرك، وهذا يتطلب التسلّح بالتمثيل المتجسد بعشرات آلاف المعلمين، ومن ثم الاستعانة بالمجتمع، فأي قطاع وحده يمكن كسره، والاستعداد لتحمل الضغوط والتهديدات والاتهامات، بما في ذلك اللجوء إلى الحل الأمني والاعتقالات واستخدام المحافظين وقطاعات مجتمعية وأفراد الأجهزة الأمنية وأعضاء في «فتح» ووسائل الإعلام وبعض الكتّاب للتحريض على الإضراب والمضربين، واعتبار ما يقومون به «مؤامرة» و»انقلابًا» لصالح «حماس» أو إسرائيل أو محمد دحلان، أو لحرف الأنظار عن الاحتلال وعن الموجة الانتفاضيّة المندلعة للشهر السادس على التوالي.
إنّ أسوأ ما قامت به السلطة رفضها الحوار مع ممثلي المعلمين الذين قادوهم بشكل مدهش ومنظم وسلمي، بحجة أنهم لا يمثلونهم بشكل قانوني رغم معرفتها أنهم نزعوا الشرعية عن اتحادهم، لدرجة أنه بعد فترة وجيزة من الإضراب استقال أو وضع استقالته تحت تصرف مفوضية المنظمات الشعبية لحركة فتح (وهذا غريب لأن المفوضية المسؤولة عنه تابعة للمنظمة). فكان على السلطة أن تفاوض الذين يقودون الإضراب، فليس هناك في القانون ما يمنع ذلك.
كما تحججت السلطة بأن المعلمين لم يلتزموا بالقانون الذي ينظم الإضراب، وهنا لا بد من القول إن الإضراب حق طبيعي يكفله القانون الأساسي، والأصل أن القانون الذي ينظم الإضراب يهدف إلى تنظيمه وليس تقييده، ويوجد في القانون الفلسطيني ما يقيد الإضراب ما يوجب تغييره حتى ينسجم مع ما ورد في القانون الأساسي، ومع مقتضيات الانضمام وتوقيع مؤسسات واتفاقات دولية تلزم أعضاءها الذين انضموا إليها من دون تحفظ تعديل كل ما في قوانينهم من مساس بحقوق الإنسان وحرياته الأساسية.
ويتمثل الدرس الثاني بأن إضراب المعلمين مثله مثل الموجة الانتفاضية وحركة المقاطعة (BDS) والمقاومة الشعبية تحركات شعبية من دون قيادة، فالفصائل تشارك فيها ولكنها لا تقودها، أما المنظمة فهي مشلولة ومغيبة لصالح السلطة، والسلطة مقيدة وملتزمة بالالتزامات السياسية والأمنية والاقتصادية ولا تملك الإرادة والجرأة للتخلص منها رغم أنها تهدد بفعل ذلك منذ وقت طويل، ورغم أنها تمردت على هذه الالتزامات سابقًا إبان الانتفاضة الثانية.
الفصائل إما ضد الإضراب، أو لا تكترث له، أو تحاول توظيفه ضد المنافس الداخلي، أو لا تملك القوة الكافية للتأثير على مجرياته بشكل حقيقي، لذلك رأينا تحول المجتمع المدني والكتل البرلمانية وعدد من الكتاب والأسرى وغيرهم بقدرة قادر إلى وسطاء بين فريقين تمامًا، مثلما تحول الصراع بيننا وبين الاحتلال بفضل «اتفاق أوسلو» إلى نزاع بين طرفين يملكان نفس الحق.
إن الوساطة بين الحق والباطل عمل ليس صائبًا، ولو كان بحجة الادعاء بأنّ موازنة السلطة لا تحتمل، أو قد لا تحتمل الاستجابة لمطالب المعلمين بعدما تضخمت، وأنّ السلطة يجب أن تبدي كرمًا ولو أكثر قليلًا مما قدّمت، وأنّ على المعلمين التخفيف من مطالبهم. فهذا كله يدل على أن الهوة بين الشعب والقيادة والفصائل تتزايد، فلا بد من تغيير وتجديد وإصلاح للسياسة والأداء من خلال البنى والمؤسسات القائمة، وهذا صعب، أو ظهور مجموعات وقيادة جديدة، وهذا بدأ لكنه بحاجة إلى وقت شرط أن يحدث هذا أو ذلك قبل فوات الأوان، فالطبيعة تكره الفراغ ويمكن ملؤه من أطراف ولاعبين جدد.
أما الدرس الثالث الذي يمكن الخروج به من إضراب المعلمين فهو أن بقاء حال السلطة من المحال، فمن المستحيل أن تبقى كما شكلت على أساس وهم بأن الدولة على مرمى حجر بعد مرور الفترة الانتقالية، أو بعد مجيء رئيس أميركي جديد، أو حكومة إسرائيلية تؤمن بالسلام، فهي إما أن تصبح أداة في خدمة الاحتلال كليًا، أو لا بد من تغيير شكلها ووظائفها والتزاماتها، وإن لم يكن ذلك ممكنا فورًا ومرة واحدة يجب أن يتم ذلك بالتدريج، ولكن وفق خطة معلنة واضحة معروف منذ البداية أين وكيف ستنتهي على أن يكون الالتزام بتطبيقها كاملاً.
ومن ضمن التغييرات التي لا بد أن تحدث في السلطة تغييرات جوهرية في الموازنة، فهي بحاجة إلى إعادة نظر شاملة حتى تقوم بخدمة إستراتيجية صمود ومواجهة الاحتلال، وما يقتضيه ذلك من ضرورة تغيير توزيع بنود الموازنة بحيث تلبي الاحتياجات والأولويات والمصالح العامة، وعلى رأسها احتياجات الصحة والتعليم والإنتاج المحلي ومقاطعة إسرائيل وليس المستوطنات فقط، وتوزيع أعباء الاحتلال على مختلف الشرائح، وخصوصًا القادرة والغنية. فما دامت الموازنة مبنية على الأسس السابقة، بما فيها جيش متضخم من الموظفين الكثير منهم بلا عمل أو من دون عمل مفيد ستبقى السلطة تتذرع بنقص الموارد، ولكن عندما تتغير فلسفة وضع الموازنة سيختلف الحال ولن يحصل الأمن مثلاً على ثلث الموازنة، بينما الصحة والتعليم وقطاعات مهمة أخرى مجتمعة لا تصل إلى هذه النسبة.
أما الدرس الرابع وهو قديم جديد يقوم على استحالة الفصل بين النضال الوطني والنضال الديمقراطي الاجتماعي الاقتصادي، فلا يمكن أن يناضل الشعب الفلسطيني بأفضل وأنجع طريقة وهو يخوض كفاحًا طويلاً لن ينتهي بسرعة، وفي ظل مقاومة ووجود سلطة في نفس الوقت وهو يعاني من ضغوط الحياة من دون أن تتوزع موارده بعدل على أساس إعطاء كل ذي حق حقه، على أساس مؤسسات نزيهة منتخبة وتحت الرقابة والمحاسبة وتحارب الفساد وسوء الإدارة والمحسوبية والعائلية والجهوية، لا يمكن أن تبقى ويتعمق فيها وجود مجتمعين وشعبين رغم أن الاحتلال يستهدف في النهاية الجميع، جزء يقدم الدم والمعاناة بالاعتقالات وهدم المنازل وعلى الحواجز، وجزء يعيش حياته وكأنه تحت ظروف أخرى متسلحًا ببطاقات (VIP) والاستثمار بالشراكة أو من دون الشراكة مع الاستثمارات الإسرائيلية، وضمن وقف الجميع تحت سقف التبعية للاقتصاد الإسرائيلي وفقًا لاتفاقية باريس.
المطلوب سلطة جديدة تستجيب لمصالح الناس وتخدم البرنامج الوطني وتكون أداة من أدوات منظمة التحرير التي بحاجة إلى إعادة بناء مؤسساتها على أسس وطنية وديمقراطية توافقية وشراكة حقيقية لتضم الجميع، وإذا كان مثل هذه السلطة صعبا أو مستحيلا قيامها فلتنته السلطة القائمة وليتحمل الاحتلال المسؤولية الكاملة عن احتلاله، على أن يتم الشروع فورًا في بناء البديل حتى لا يؤدي عدم النجاح بتغيير السلطة أو انهيارها أو حلها إلى الفوضى والفلتان الأمني وتعدد السلطات، التي لن تكون في هذه الحالة مجرد سلطتين فقط كما هو الحال الآن، بل ستكون هناك سلطة في كل معزل من المعازل التي أقامتها إسرائيل منذ احتلالها العام 1967 وحتى الآن.