في هذا العام 2016 يكون قد مضى على اتفاقات سايكس بيكو قرن من الزمن.
لا تستحضر المناسبة الآن، بالدرجة الأولي والأساسية، بغرض المراجعة واستخلاص الدروس، ولا لتقييم مسار وأداء الدول القطرية التي نشأت عنها، وبالتأكيد ليس من باب الترحّم.
تستحضر المناسبة الآن ويكثر الحديث حولها في مسار، وللمقارنة مع، الحديث المتشعب وعالي الوتيرة الذي يدور حول "إعادة رسم خرائط المنطقة" - خرائط الشرق الأوسط الجديد حسب التعبيرات السياسية الدارجة - وإعادة تقسيم وترسيم الدول والكيانات فيها، وتتكرر في هذا الحديث تعبيرات مثل "تجزئة المجزأ وتفتيت المفتت".
الحديث هنا لا يدور حول إدخال تعديلات في بنية النظم السياسية القائمة مثل اعتماد النظام الفدرالي أو الكونفدرالي بديلاً عما هو قائم، وإنما يتخطاها إلى إعادة رسم خرائط المنطقة بما يوائم ما بين السياسي والمذهبي والجغرافي وبين خدمة مصالح القوى الدولية الفاعلة وإستراتيجياتها ويراعي التوازن فيما بينها.
تتفاوت جدية حديث إعادة رسم خرائط المنطقة بين أطراف تخوضه كحديث مجالس وفرضيات وتوقعات سطحية وتسلم بحتمية حصوله، وبين أطراف تخوض فيه بجدية ودراسة وتخطيط، مدفوعة بمصالحها وإستراتيجياتها العامة وضروراتها ومتطلباتها، وبإدراك في نفس الوقت للتعقيدات والمعيقات والتبعات، وبالذات لجهة تمزيق كيانات سياسية ومجتمعية ظلت قائمة لقرن من الزمن على الأقل.
العامل المشترك الأهم بين سايكس بيكو وحديث هذا الزمن هو أن القوى المخططة والمقررة في الحالين كانت ولا تزال قوى من خارج المنطقة، وأن شعوب المنطقة وأنظمتها إما فاقدة للدور تماماً، وإما ذات حضور ودور ثانويين، وإما ملحقين بقوى الخارج.
ومع تأكيد صحة هذا العامل فإنه يبقى هناك اختلافان تفصيليان: الاختلاف الأول، وهو على درجة من الأهمية والتأثير.. إنه في زمن سايكس بيكو كانت القوى المقررة في تقسيم الوطن العربي متحالفة، وقد خرجت من الحرب العالمية الأولى منتصرة ودونما تعارضات أساسية تذكر فيما بينها، وخرجت متوافقة في رؤيتها للمنطقة وموقعها وموضعها في خططها وسياساتها العامة.
في زمن سايكس بيكو، كان حجم التعقيدات والتداخلات قليلاً، ولم تكن أوضاع المنطقة ولا الأوضاع العالمية تفرض على القوى المقررة ضرورة مدّ النظر والاستقراء إلى أزمان بعيدة قادمة، بينما القوى المخططة والمقررة في هذا الزمن ذات مصالح وإستراتيجيات مختلفة، وتصل الخلافات بينها إلى درجة التناقض وربما الصراع، وتواجه تعقيدات وتداخلات كثيرة، ما يفرض عليها ضرورة مد النظر والاستقراء إلى القادم البعيد، على كل المستويات.
الاختلاف الثاني: إنه في زمن سايكس بيكو لم تكن في المنطقة - باستثناء مصر- دولة أو دول قطرية عربية متبلورة ذات حضور سياسي، ولا كان هناك كيان سياسي موحد، بل إن اتفاقات سايكس بيكو قامت على أنقاض وعد مخادع قدمته دول ذلك الزمن المقررة بقيام كيان سياسي عربي جامع لمعظم مساحة المشرق العربي كثمن لخروج القوى العربية على الخلافة العثمانية ومساندة الأعمال الحربية ضد الإمبراطورية العثمانية.
في هذا الزمان أيضاً، لا وجود لكيان سياسي جامع، وإنما توجد دول قطرية ذات أنظمة ودساتير وسيادة وطنية، حتى ولو كان معظمها لا يملك القوة اللازمة للتقرير، ولا القدرة على التأثير الجدي في مجريات أحداث المنطقة ومستقبلها أو في الحديث الذي يدور حول إعادة رسم خرائطها. العامل المشترك الثاني والمهم، هو أن إقامة دولة الكيان الصهيوني في قلب الوطن العربي على أرض فلسطين اللاحمة ما بين مشرقه ومغربه، كان عنصراً مركزياً في خلفية وإستراتيجيات اتفاقات سايكس بيكو، وفي أساس مصالح الدول المقررة فيها.
وفي هذا الزمن، وعلى الرغم من الاختلافات الجدية، وربما المتصارعة، بين القوى المخططة والمقررة على عناوين عدة، فما زال الحفاظ على هذا الكيان وضمان استمرار وجوده عنوان اتفاق أساس مشترك بينها، إن لم نقل تقويته وضمان تفوقه لدى غالبيتها. أما العامل الثالث المشترك، فهو، إنه في زمن سايكس بيكو كان هناك رفض لقيام كيان سياسي موحد للأكراد يجمع أجزاءهم الموزعة على أكثر من دولة في المنطقة. فبعد أن أشارت معاهدة "سيفو" للأطراف المنتصرة في الحرب إلى مستقبل الأكراد، تم إسقاط هذه الإشارة لاحقاً في اتفاقية لوزان 1925 تحت ضغط ما تبقى من الإمبراطورية العثمانية، الدولة التركية، التي بدأ أتاتورك يقودها باتجاه الغرب.
في هذا الزمن لا يزال الموقف هو ذاته، فلا يزال هناك رفض لقيام كيان كردي موحد، سواء كان هذا الرفض مبدئياً وأصيلاً أو كان مراعاة لهذا الطرف الإقليمي أو ذاك، أو نابعاً من تقدير حسابات القوى المقررة بأن ظروف المنطقة وتوازناتها ما زالت لا تسمح بقيامه.
العامل المستجد كلياً في هذا الزمان عن زمن اتفاقات سايكس بيكو، أنه في ذلك الزمن لم تكن هناك قوى إقليمية يحسب لها حساب. كانت إيران الشاهنشاهية موجودة ولكنها كانت حليفة للدول المخططة والمقررة وساندتها في الحرب، وتمت مكافأتها بمنحها أراض من المنطقة أضيفت إليها، أما في هذا الزمن فهناك قوى إقليمية قوية لا يمكن تجاهلها وتجاهل دورها ومصالحها، وأيضاً طموحاتها الإقليمية، في أي تخطيط لإعادة رسم خرائط المنطقة. هناك قوى إقليمية امتلكت وسائل قوة متنوعة، وامتلكت معها مشروعها الخاص للإقليم، ما يدفعها للتطلّع إلى امتلاك مجالها الحيوي الخاص بها. القوة الإقليمية التي ما تزال تائهة، حتى الآن، بلا دور ولا مشروع، هي القوة العربية.