ذات يوم بعيد، كنّا أطفالا؛ أطفالاً عاديين .. في ذاك الزمن - غير العادي – كان الفقر يحوم بين البيوت، والبرد يطوّق المدن، وينسل من الشبابيك، وذكريات اللجوء تُحفِّز الهواجس لما يخبئه قادم الأيام .. وكانت لنا أم رؤوم، ربما كانت كسائر الأمهات؛ إلا أنها وحدها كانت تعني لنا كل شيء .. هي اسم لكل الأسماء الجميلة .. قبلها كان المكان يلوذ بالصمت، والهواء دون عبق، والريح لا هي باردة ولا هي دافئة، والليل بلا مذاق .. ثم أتت؛ فصار لكل شيءٍ شكل آخر مختلف.
وُلِدتْ في البلاد، في زمنٍ كانت تتهيأ فيه للأحزان والنكبة، جاءت من قصيدة ملحَّنة، من أرضٍ مخضبةٍ بالأشواق، هناك تفتحت براعمها وأينعتْ، ثم انطلقتْ في رحلتها الممتدة في جروح المنفى، وبين تعاريج المدينة، وفي أزقة المخيم .. حتى اكتمال المعنى، وانصهار الروح بعد نضوج الألم .. غادرتْ بيتها العتيق؛ بيْد أنه لم يغادرها، في الأماسي المقمرة، كانت تستحضره بكل بهائه وبساطته، ثم تستحضر القرية بروائحها، ومواقع بيوتها، وأسماء الأقارب، وصفّاً من الراحلين، والمقيمين في أقاصي الذاكرة، تجلبهم طائعين إلى عتبة الدار .. بل وتأتي بالوطن كاملاً إلى سهرة المساء، تعيد ترتيب الحكايات والأمثال، ووصف البيدر، ومواسم الزيتون .. لا لشيء، سوى رغبتها في إبقائه حياً في قلوبنا؛ أو لأنها كانت مصابة بداء الحنين المزمن .. في تلك الأيام الصعبة، رأيتها ذات صباح تغطّي وجه أبي بالكوفية، وتلمّع له "الكلاشن"، وتوصيه قبل الخروج: "دير بالك من الجيش"، تلك كانت أول المشاهد التي تيقّظت عليها طفولتي .. وحينها، ككل الأطفال، تفتّحت مداركي على معنى الأمومة، دون أن أفهمها .. ولما كبرتُ، أدركتُ متأخراً بعضاً مما كانت تقوله دون أن تبوح به .. كانت هي اليد التي تسند ظهورنا كلما ثقُلت عليها الأحمال، والبهجة التي تملأ نهارنا بالأمل. هي التي مهدت برضاها طرقنا الوعرة، وظلت تدعو لنا بعد كل صلاة، بأن يكون الهواء على صدورنا ليّناً رقيقا .. هي الروح المتوثبة دوماً، التي لم تخذلنا يوماً، ولم تغضّ الطرف حتى عن رفّة العين. هي بقعة الضوء تمتد في أشدّ الليل حلكة، لتنتشلنا من لجّـة السؤال واضطراب الإجابات، وتحملنا برفق إلى واحة اليقين. هي القلب الحنون. هي الحياة تفيض علينا من نعمائها، وتغمرنا بالدفء. هي النور المنساب من النافذة، يوقظنا بحنو، لنبدأ به يومنا.
هي كل هذه المعاني، تُحضرها أمّي دفعة واحدة، إذا مسّنا الكرب. لم تشْكُ ألماً، على الرغم من امتلاء روحها بالآلام، ولم تتخلّ عن ثوبها الكنعاني المطرز بالحرير .. كان هويتها الجميلة، وصورتنا البهية في مرآة التاريخ .. في أيام الصيف، كانت تعد أكياس الثلج، وترسلنا إلى البيوت التي تنتظر أن يطفئ ظمأها كأس ماء بارد .. وأحيانا مع طبق من طعامها الشهي .. لم تعرف يوماً "عيد الحب"؛ لكن قلبها كان نهراً دافقاً من الحب، لم تحتفل كل سنة بعيد الأم؛ لكن حنانها كان يفيض على كل السنين .. كانت بديهية كطلعة الشمس كل صباح، ومدهشة كنوّار اللوز، وسخية كالمطر .. لم تكن الأعراس لتبدأ، ولا لتكتمل، حتى تنشد بصوتها الشجي أهازيج البلاد، وأغاني العاشقين .. ببساطتها، كانت تجعل من "قلاية البيض" وليمة، ومن "قالب الكيك" مهرجان فرح، وتعطّر البيت برائحة "الخبّيزة" و"الميرمية"، تُعدُّ لنا "المطبّق" و"الخبز المبلل بالزيت والزعتر"، فتجعل صباحنا طازجاً وشهياً، وعندما نأوي للنوم، تغطّينا بصوتها الدافئ، كي لا يكون لأحلامنا صمت الأنين. وطالما وقفَتْ في طوابير "الأونروا"، لاستلام المؤن، وحفظتْ أسماء الأدوية وألوانها، لتعيد استخدامها كلما أصاب أحدنا الإعياء، مع كعكة مغمّسة بالشاي، ونصف برتقالة، وفيضان أمومة. في عينيها متسع يكفي لاستضافة سحابة حزينة، وبين رموشها يمكن لغابة نخيل أن تنمو باسقة، وفي قلبها مأوى يتّسع لأن نغفو فيه جميعا مطمئنين .. في آخر خروج لها من البيت، أوصلتني للجسر، وأصرّت أن تودّعني عند آخر نقطة يمكن لها أن تصلها، وفي طريق العودة طلبت العروج على بيتها القديم، الذي أنجبت فيه أبناءها الإثني عشر، دخلته خاشعة، كان فارغا وصامتا تماما، فأجالت فيه النظر وأطالت، حتى سرت فيها قشعريرة، ثم أطلقت زفرة من أعماق صدرها، استخرجت ذكريات عشرين عاما قضتها تحت ذلك السقف، وقالت بحسرة: لو فيِّ شوية حيل لكنستُ البيت وفرشت البطانية ونمت فيه ليلة .. ليلة واحدة تكفيني قبل أن أموت .. بدأتْ مشوارها صبيّة يافعة، وأنهته بصمت وكبرياء .. بعد سنوات مضنية من اختبار الوجع .. كانت تخبئ أوجاعها تحت المخدّة، وبين الجفون، ثم تسكبها دمعا ساخنا في عتمة الليل، وحيدة مع أسئلتها .. ومناجاتها لله، دون سواه .. وبين البداية والنهاية، مرّت كومضةٍ خاطفة، أضاءت ليالينا .. عجنت بأيديها خبزنا، وتفاصيلنا الصغيرة، وظلت خفيفة على قلوبنا كأثر فراشة .. ثم رحلت، تاركة وراءها كومة ذكريات، وفضاء متخماً بالكلمات، والأدعية، ورائحة النعناع والطيب .. كم تمنيتُ من قلبي أن أعود طفلا ساعة واحدة، في صبيحة يوم عيد، لأقبّل يديها، والتقط منها نصف دينار فقط، سيساوي عندي ثروة "بل جيتس" كلها .. ولأسمع منها: "الله يرضى عليك يمّا" .. تساوي عمراً بأكمله .. مضت سنين طويلة على غيابها، وما زالت صورتها تهبط على أمسياتنا وابلاً ناعماً وسخياً من الحنان، وما زلتُ أمشي على هديها مضرجاً بالحنين، أتضور شوقا لأن أقول لها، ولو لمرة واحدة: مسا الخير يمّا .. ربي إرأف بها كما ربّتني صغيرا.