اللغة بين الشكل والمضمون في كتاب "كأنها نصف الحقيقة"

322701A
حجم الخط

الكاتب: رائد الحواري

أراد الكاتب "فراس حج محمد" في هذا النصوص أن يقدم نفسه ككاتب نص نثري، متجاهلاً قدرته على خوض عالم الرواية أو القصة، علما بأنه يمتلك كل المقومات لخوض تجربة روائية، وقد وجدنا في هذه المجموعة ما يبرر للكاتب هذا الأمر ـ الكتابة النثرية ـ بكل تجرُّد استطاع أن يقنعنا بأهمية هذا النوع من الأدب الذي نفتقده، خاصة بعد ظاهرة جبران خليل جبران ومخائيل نعيمة.

فهو يقنعنا بمضمون النصوص التي تنحاز للمرأة وتأثيرها الفاعل، فهي الملهمة لهذا الإبداع الأدبي، فغالبية النصوص تتحدث عنها وتجعلها القمر المنير والشمس الهادية للكاتب، فبدونها يحل الظلام ويحل الجدب، فالمرأة عنده تتقارب في هذه النصوص بصفات الرّبة "عشتار" التي تمنح الخصب والحبّ، وبدونها يكون القحط والموت.

من ميزات "فراس حج محمد" قدرته على استحضار النص القرآني في كتاباته بطريقة مميزة، بحيث تأتي تلك الاستحضارات بشكل عفوي غير مقصود، مما يجعل النص أكثر جمالا وإقناعا، وكمثال على هذا الاستخدام نقتبس هذه النص كاملا:

"مربى الورد"

"أربي الورد فإذا استوى على سوقه لسعني شوقه، وتغلغل عطره في خلايا غيري"/ ص (141)، فاستخدام اللفظ "استوى على سوقه" يتماثل في مضمونه ومعناه مع ما جاءت به الآية القرآنية*** تماما، مما يجعل النص يقربنا من المعنى في الآية القرآنية، وفي ذات الوقت أعطانا صورة أدبية جميلة، فمثل هذا الاستخدام يكاد ينفرد به "فراس حج محمد"، ومن هنا نريد الدخول إلى هذه النصوص، لنرى علاقة اللفظ بالمضمون واللغة بالشكل، فهل هناك انسجام بين اللغة واللفظ من جهة وبين المضمون أم أن الكاتب كان يريد طرح مضمون بلغة بعيدة ولا تتناسب مع فحوى النص؟

ولكي نوضح هذه المسألة نقدم هذا الاقتباس من الكتاب:

"حد الجنون"

"كم تأملتك في صباحي كأنك كأس خمر، نشوة متجددة، تأخذني تلك الابتسامة الناعمة، ذلك الجسم النقي، ذلك الكبرياء الملفع بالأنوثة الطازجة التي تكسر القواعد الثابتة والمتحركة!

يا لك من امرأة فاتنة حد الجنون"/ ص (7)، إذا عدنا إلى الألفاظ المستخدمة نجدها كلها تخدم فكرة النص، ونجد كافة الألفاظ ناعمة وهادئة "صباحي، كأس خمر، نشوة متجددة، الابتسامة، النقي، الكبرياء، بالأنوثة، الطازجة" كل هذه الألفاظ تنسجم مع المضمون وتخدم النص، فهنا كان المضمون واللفظ واللغة كلها تعطينا لمسة من النعومة والهدوء، وتخدم الفكرة، لكن وجود لفظ "تكسر" جاء كتكسير للاستخدام الناعم والهادئ السابق، وكأن الكاتب أراد بها أن خلخل لدى المتلقي الانسجام اللغوي السابق بوجود لفظ "تكسر" فـ "كسر القواعد الثابتة والمتحركة، ليس عند المرأة وحسب بل عند المتلقي أيضا، وجاء لفظ "الجنون" في آخر الفقرة وكأنه تأكيد على إصرار الكاتب على الخروج من حالة النعومة والهدوء إلى حالة مغايرة.

لا شك أن الفقرة تخدم فكرة النص، وتعمق المضمون عند القارئ، لكن هذا الشكل من الاستخدام يشير إلى أن هناك شيئاً غير مكتمل في العقل الباطن، من هنا نجده (ينحرف) إلى استخدام الألفاظ المتطرفة في نص لغته في مجملها ناعمة وهادئة، ومضمونه كذلك.

حالة الانحراف عن مساق لغة النص كان واضحا في "الحب والحياة" فنجد العديد من الألفاظ القاسية التي أراد من خلالها الكاتب أن يقدم فكرة إنسانية، ناعمة ونبيلة، لكنه كان غير موفق في استخدام اللغة، التي كانت قاسية وصعبة وتحمل الكثير من الغلاظة، فيقول:

"لا أحب الحب المنقوص والناقص، إذا لم يكن كاملا متكاملا، نديا جبارا متحديا فليس لي به حاجة،... إذا لم تتفتح زهرته في دمي وتنبت أعضاؤه في تربة لحمي وتنغرس جذوره في أعضائي فلا داعي لحب يموج على سطح موجة تبعده النسائم في عرض البحر ليتوه هناك ويضيع"/ ص (16)، في هذا النص أراد الكاتب أن يقدم فكرة تتمثل في (حرصه على الحب، وطبيعة/ شكل هذا الحب) لكننا نجد حالة من الصراع في اللفظ المستخدم، مثل "نديا جبارا، زهرته في دمي، تربة لحمي، وتنغرس، ليتوه، ويضيع" كل هذه الألفاظ قاسية وتجعل القارئ يأخذ فكرة جيدة بلغة وألفاظ غير مناسبة، فكلمة "جبار" لا تتناسب مع مضمون فكرة الحب، فالحب والجمال له ألفاظ ولغة تفرض ذاتها على الكاتب، بحيث تجعله يهيم بين المضمون واللفظ/ اللغة.

هذا المراد الذي نسعى لكي يصل إليه "فراس حج محمد" ويقنعنا بأنه كاتب منسجم في لغته والمضمون الذي أراد طرحه، فاستطاع أن يصل إليه ويتأكد لنا بأنه تجاوز (الانحراف) السابق وقدم لنا نصا يكاد يكون مدرسة في انسجام الشكل مع المضمون واللغة من الفكرة، في نص "فاكهة الصبح" الذي يقول فيه:

"صباحك الحب يا خلية العسل التي اشتاق تذوقها كل ليلة"/ ص (17)، النص حتى نهايته لا نجد فيه لفظاً شاذاً أو قاسياً، وقدم لنا نصاً آخر "عاشق في ليلته الأخيرة"/ ص (83)، أيضا إبداعا متميزا يجعل القارئ يهيم في اللغة الساحرة فيقول: "كان علي أن أتأمل ضحكتك كيف ستكون، وهي ترقص بين وردتين سنزرعهما في موعد قادم محتدم بنا!... كشعاع الشمس متسلل إلى مساء معتمر مغتبق مكسو بلحن راقص على أهداب الوقت!

لأنك الأجمل إشعاعا والأروع ابتهاجا والأندى صباحا"/ ص (83)، بهذا الشكل يكون الكاتب أكمل إبداعه وأعطانا مضمونا متوحدا ومنسجما مع اللغة.

أصعب وأقسى نص كان "الجثث المحنطة"/ ص (13) فهو نص سوداوي، ويمثل خروجا واستفزازا لبقية النصوص، فمن الألفاظ المستخدمة فيه "تصعد على جثثهم المحنطة، سفح الجثث المثلجة، انبعاج ذاكرتي، خطواتي اللاهثة، جثث الكتب"/ ص (13)، فهذا النص يشكل خروجا عن مسار النصوص، ويكاد يشوهها، لكن بما أنه الوحيد نستطيع تجاوزه.