هجمات بروكسل ....و"النوم في حضن الشيطان"

راسم عبيدات 123654789
حجم الخط

التفجيرات المركبة التي ضربت بروكسل وقبلها أنقرة وباريس واماكن اخرى في العالم،والتي راح ضحيتها مئات الأبرياء قتلى وجرحى، تثبت وتؤكد من جديد وبالأدلة الملموسة أن الإرهاب لا حدود له، وان هذه الإعتداءات تاتي كنتيجة حتمية لرعاية وحضانة البعض عربيا وإقليمياً ودولياً لتلك الجماعات الإرهابية والتماهي مع إرهابها لتحقيق اهداف واجندات معينة،واكثر من ذلك فهناك من يصر على "تشريع" الإرهاب من خلال محاولة وصف بعض الجماعات الإرهابية ب"المعتدلة" كما هو الحال في ما يسمى ب"جبهة النصرة" و"جيش الإسلام" وغيرها من الألوية والتشكيلات الإرهابية،والتي هي في النهاية متفرعات من العقيدة التكفيرية المتشددة.

رغم كل حالة الإستنفار في الدول الأوروبية والتهديدات التي اطلقتها "داعش" علناً بانها ستستهدف دولاً اوروبية بإرهابها وبالذات بلجيكا، فإن كل ذلك لم يمنع او ينجح في منع أو ضبط أي من العمليات الإرهابية، وهذا الفشل الذريع للأجهزة الأمنية الأوروبية والبلجيكية، سيفتح نقاشاً واسعاً لدى الحكومات الغربية ومستوياتها السياسية والأمنية حول أسباب تجذر الإرهاب ومصادر قوته، وعلاقاتها مع حواضن وبيئة هذا الإرهاب من قوى ودول، ولماذا الفشل الذريع في استئصاله او إجتثاثه او على الأقل لجمه..؟؟

وقبل طرح الإجابة عن هذا السؤال، لابد من القول بأن تفجيرات بروكسل الإرهابية،تؤكد ان الإرهاب شب عن الطوق وخرج عن سيطرة داعميه ومشغليه، ففي كل الحالات التي جرى فيها استخدام قوى إرهابية خدمة لأهداف ومصالح معينه، كان السحر ينقلب على الساحر،ويرتد الإرهاب الى حواضنه، كما حدث عندما استخدمت امريكا العرب الأفغان وجماعة القاعدة وطالبان،او ما يسمى بالجهاد الإسلامي العالمي لمحاربة الروس الشيوعيين في أفغانستان، حيث سلحتهم امريكا ومولتهم بعض الدول العربية، وأرسلت لهم فائض القوى البشرية الإرهابية بالذات من هذه الدول وجمهوريات روسية الإسلامية، وليصفهم الرئيس الأمريكي الراحل ريغان ب"المناضلين من اجل الحرية"، وبعد استنفاذ الدور والمهمة جرى التعامل معهم على أساس انهم جماعات إرهابية، نفذت العملية الإرهابية الكبرى، احداث البرجين في أيلول/2001 .

دول أوروبا الغربية وامريكا ستدفع ثمن سياساتها القائمة على ما سأطلق عليه "النوم في حضن الشيطان"،وهي سياسات تقوم على التعاون مع الجماعات الإرهابية من اجل إبتزاز دول مستقلة،او تغيير انظمة حكمها رغم إرادة شعوبها،ولعل ما جرى ويجري من اعمال إرهابية وتقديم كل أشكال الدعم المادي والعسكري والدبلوماسي واللوجستي والإستخباري والبشري لتلك الجماعات في ليبيا وسوريا والعراق واليمن والسودان ومصر وتونس وغيرها يندرج في هذا السياق، على اعتبار أن الدعم جرى ويجري ضد انظمة تعترض او تعادي السياسات الغربية والأمريكية في المنطقة، ولكن هجمات التنظيمات الإرهابية في فرنسا وبلجيكا وهجوم اسطنبول الأخير، تأتي في سياق مختلف، أيّ أنها تستهدف دولاً وحكومات هي جزء لا يتجزأ من السياسة الغربية، ولم يعرف عن هذه الدول اعتراضها على السياسات الأميركية، وهذا يعني بأنه هناك أسباب وجاهية تجعل الإرهاب يضرب في تلك الدول، لعل في مقدمتها غياب الخطط والبرامج القائمة على دمج المهاجرين وبالذات من دول المغرب العربي، وتنامي قوى التطرف واليمين الفاشي في العديد من الدول الأوروبية، وكذلك انغلاق وتقوقع المهاجرين حول ذاتهم، ونمو ثقافة والتطرف عندهم، وتراجع وتائر النمو الإقتصادي في الكثير من الدول الأوروبية، يخلق حالة صراعية بين سكان البلاد الأصليين الرافضين لهؤلاء الوافدين الذين قد يزاحمونهم على فرص ومواقع عملهم وبأجور أقل منهم، وكذلك تفشي الجريمة المنظمة في صفوفهم والمشاكل الإجتماعية في اوساطهم، وبالمقابل عدم الإستيعاب والدمج يخلق عند الوافدين حالة من الحقد والكراهية للسكان الأصليين.

ولكن ثمة عناصر اخرى تسهم في شكل جدي بنمو وتطور وتجذر وتفاقم ظاهرة الإرهاب،وهي ازدواجية وانتقائية المعايير الأوروبية الغربية، فيما يتعلق بالديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات، حيث تنصب امريكا ودول اوروبا الغربية من نفسها حامية الحمى لهذه القيم والمبادىء، وشنت حروباً ظالمة على قوى ودول، تحت يافطة وذريعة تنكرها لهذه القيم والمبادىء وممارسة القمع والقتل بحق شعوبها كالعراق وسوريا وليبيا واليمن نموذجاً، في حين تدعم دولاً سجلها حافل في القمع وانتهاك حقوق الإنسان، ومصادرة الحريات وتكميم الأفواه مقابل ما تحصل عليه من أموال ونفط من تلك الدول عدا عن دعمها للاحتلال الاسرائيلي غير المشروع منذ عقود، وهذا بلغة الزميل ناصر قنديل يعبر عن " سقوط التفوق الأخلاقي الأوروبي أمام إغراء المال يحمل ضمناً مقايضة الصمت عن الانتهاكات لمعايير الديمقراطية وحقوق الإنسان بصمت عربي عن تمييز عنصري يلحق بالمسلمين في كثير من البلاد الأوروبية". ولعل من النتائج المباشرة لدعم تلك الجماعات الإرهابية سيكون على شكل ازمات اجتماعية عميقة ستشهدها تلك الدول، وكذلك الفائض الإرهابي الذي شارك من تلك الدول مع الجماعات الارهابية في العدوان والقتال في أكثر من بلد عربي،وبالذات سوريا والعراق،سيترتب عليه مخاطر كبيرة على امن تلك الدول عندما يعود المئات منهم من سوريا والعراق.

ولعل الرئيس الروسي بوتين عندما وقف الى جانب النظام السوري في الحرب على تلك الجماعات يدرك مدى الخطر الذي ستشكله تلك الجماعات على امن واستقرار روسيا عند عودتها من سوريا، ولذلك قال "نحن ندافع عن مصالحنا وأمننا".

وأوضح بأن القوى الإرهابية لديها مئات من المجندين المدربين العائدين من جبهات القتال سواء في سوريا او ليبيا او العراق او تونس او اليمن او حتى مصر، ويمتلكون الى جانب ذلك البيئة الحاضنة، التي توفر لهم دعما مالياً ولوجستياً يجعلهم قادرين على الضرب في أي مكان يختارونه، فرغم كل الإستنفار والاختراقات لخلاياهم وتنظيماتهم من قبل أجهزة المخابرات الغربية، فإن كل ذلك لم يحل دون قيامهم بعملياتهم الإرهابية المركبة في بروكسل.

واوضح بأن الحرب على الإرهاب وفق التكتيكات المتبعة من قبل دول اوروبا الغربية لم تعد مجدية، وغير قادرة على لجم الإرهاب ووقف هجماته، ولذلك فإن عملية اجتثاثه واستئصاله،بالضرورة ان تستند الى تجفيف منابعه ومصادره، وتدمير بناه الاجتماعية ومؤسساته وشبكاته التعليمية والاغاثية، وكذلك على الدول الداعمة للإرهاب على ضوء ما يجري، ان تحدث استدارة في مواقفها ورؤيتها، بحيث توقف دعمها وتعاونها مع الجماعات الإرهابية وتوظيفها سياسياً من أجل ابتزاز وتغيير انظمة حكم، العمل والتعاون بشكل جدي وحقيقي مع الدول التي تحارب الإرهاب في حواضنه ومعاقله الأساسية وبالذات في سوريا والعراق، والتخلي عن السياسة العرجاء، سياسة "النوم في حضن الشيطان".