ليست المرة الأولى التي تتوقف فيها صحيفة عن الصدور. لقد كانت عزيزة على قلوب الكثير من اللبنانيين و(العرب) وإلا لما كان افتتاح اليوم مع فنجان القهوة يتم بها. لكن هذه المرة تختلف عن سابقاتها، فالمسألة ليست منافسة بين جرائد، يستمر بعضها ويبقى بعضها حسب أوضاع «السوق»، بل إن تطوراً تكنولوجيا يحتم أو «يكاد يحتم»، الاستغناء عن الجرائد الورقية لصالح الاعلام الرقمي. يتعرض قطاع الجرائد كله تقريباً للزوال بفعل التطور التقني. المحبطون هم امثالنا الذين لا يستعملون رسائل الانترنت وتوابعها، والذين صار لديهم التعامل مع الجرائد الورقية عادة يومية ويبدأون بالحنين إلى أيام تكاد تمضي والنوستالجيا إلى حياة تكاد تنتهي قبل حلول الوقت.
لقد تقلص عدد مستخدمي الجرائد الورقية منذ سنوات، هم الآن بضع عشرات من الآلاف. فيما مضى كانت جريدة واحدة تطبع أكثر مما تطبع كل الجرائد في هذه الأيام. لاقت الجرائد المطبوعة صعوبة في مواجهة التلفزيون وهي تلاقي صعوبة أكبر وأكثر خطراً في مواجهة الانترنت. لدى وسائل الاعلام جميعاً، الورقية والتلفزيونية والرقمية، اعتماد متزايد على وسائل التمويل الذي يغطي الإصدارات، غالباً ما يكون ذلك بواسطة الإعلانات، أو دفعات مباشرة أحياناً، وهذه لا تأتي إلا لمن لديه حصة حرزانة من السوق.
قبل الاستمرار، هناك ملاحظتان يجب إبداؤهما:
÷ وسائل الاعلام الرقمية والتلفزيونية أكثر توجيها. تأتي غب الطلب، خاصة الرقمية منها.
÷ وسائل الاعلام الورقية، ربما كانت أقل توجيها، لما فيها من تنوع، لكنها تأتي دورياً في أوقات محددة من النهار.
على كل حال يمكن حل جميع المشاكل التقنية المتعلقة بالموضوع، ولغير صالح الوسائل الورقية.
يمكن القول ان في الجرائد الورقية معرفة أكثر، ففيها تقلب الصفحات وتواجه أخباراً وتعليقات لم تكن تقصدها. تعلم ما كنت تجهل. في الوسائل الالكترونية أنت تقصد أخباراً معينة تذهب إليها ولا تواجه ما تجهل كي تعلم. لكن هذه مسائل تقنية تمكن معالجتها. نبقى نحن الذين لدينا نوستالجيا للجرائد الورقية، لا نجد أسباباً تجعل وسيلتنا الورقية هي صاحبة الميزات التقنية. وقد عاندنا كثيرا قبل تعلم الانترنت. اعتقدنا ان هذا العمر المديد سوف ينتهي قبل الاضطرار لتعلم التكنولوجيا الجديدة التي لم تعد جديدة. نحن غير جدد. لكن علينا ان نتعلم شيئاً جديدا بالنسبة لنا. التعلم ليس صعباً، كما يقال. الوسائل الالكترونية الجديدة صديقة المستعمل، أي تفترض في تصميمها جهل المستعمل، ونحن لسنا جهلة: لذلك سوف يكون سهلاً علينا التعلم. ممانعة التعلم لدينا تبدو نوعاً من العناد. نقر بذلك.
السؤال الأهم هو ماذا يتعلم هذا الذي يجلس امام الانترنت ساعات طويلة لقراءة الجرائد وغيرها. نعرف ان المعرفة هي تعلم فردي، لكنها أيضاً علاقة اجتماعية. هل سيخسر القراء ذلك مع الوسائل الرقمية. علينا الانتظار لمعرفة النتائج. كل ما نعرفه هو ان الاطلاع على الاخبار والتعليقات سوف يكون، ربما، أقل مع الوسائل الرقمية من الوسائل الورقية.
هذا يقودنا إلى السؤال الأكثر عمومية: ان الذين يجلسون إلى شبكات الانترنت ساعات طويلة سوف، ربما مرة أخرى، يكونون أقل قدرة على التواصل الاجتماعي. وربما ستكون المعلومات المستقاة من الوسائل الرقمية أكثر اختصاراً. وهذا يعود إلى سرعة الحياة في هذه الأيام. وماذا عن وحشة الجالس امام الشاشة لساعات طويلة؟
أما حجة ان التقدم هو الأمر الطبيعي، وبالتالي، هو المستحب. فالجواب ان كثيراً من الإنجازات التقنية ليست في صالح الإنسان، كالسلاح النووي والوقود النووي. وهناك امثلة أخرى كثيرة. فهل هذا موجب لرفض كل أنواع التقدم؟ لن يكون ذلك ممكناً.
العمل السياسي هو الذي يفترض بالمحصلة، ان يقرر ما هو مفيد من التقدم، ويقرر ما هو غير ذلك. المشكلة في لبنان ان العمل السياسي مجهض عموماً إلا لدى بعض الناشطين، لأسباب تعود إلى الانقسام الطائفي، وإلى التطور السياسي الراهن. مع ازدياد التشنجات وسيطرة الموقف على البحث والرأي الحر، صار الحدث مجرد وجهة نظر. الرأي لا يبنى على استقصاء الاخبار والخروج منها باستنتاجات عقلانية، وعلى شيء من الموضوعية. الآراء والمواقف محددة سلفاً. الأحداث تأتي لموافقة هذا الرأي أو ذاك. المسألة سياسية بالدرجة الأولى. لا تُحل على أسس تكنولوجية، مهما تحدثنا عن التقدم وحسناته ومساوئه.
عن السفير