بقلم: سميح فرج
ومرة أخرى، فعلت مثلهم ذلك اليوم، الناس ينسربون عادة في سطوة المكان، والذي في عادته يحتشد باللهاث واللاهثين، تَعَرَّج كل منا في امتدادات الآخر، أنا والمسارب المعدنية التي ترتطم بأنّات العابرين وأرساغ أيديهم وكل شهيق لهواء أو ما يشبه الهواء، هؤلاء الذين لا يغيب عنهم ذيّاك التعب الباطش والأحمال الجمّة القاسية، وبعض هؤلاء يعلمون أنهم مقبلون نحو قادم غامض ومخاضات قد تكون باهظة أو مدهشة، ويجنح هؤلاء أو بعضهم أيضاً لتنفس بعض الدروس المضيئة من وجع مستبد يتقاطب عليهم ويمعن فيهم ويستغرق، تلك الدروس التي قد تلزم هي أو بصيرتها في لحظة ما، حينما قد يندفع فينا، أو إلينا أو أمامنا بعض ما هو خارج الحسابات وحصافات الاستقراء، وكانت التوجسات حاضرة في ذلك المكان الذي يسمى بحاجز التفتيش (300)، وكان الوقت يكاد يلامس منتصف المسافة الجالسة في النصف الأول من صفحة النهار، مررت من هذا المكان مرات قليلة جداً في السنوات العشرين الأخيرة، قلت، وكانت الذاكرة والرؤية تتماوجان، وتجرب كل منهما متفاصحة احتواء مساحة روحية أو غير روحية من الأخرى وطيها مع كل النفائس، والمفاتيح العزيزة، وغلاوة دموع الأمهات الوارفات، وسلال القش، وبعض الرسائل، والوصايا والمناديل، أو تحاول تسخير تلك المساحة لصالح استبصار مغاليق الراهن وانحيازاً لطفولة ترش الماء على ورودها الفصيحة، جميل أنني تجاوزت مرحلة البصمة، وشلح الحزام، وحمل الحزام، وحزم الحزام، ومرحلة الفحص الالكتروني، حيث الزامور المزمجر الزاجر، والذي لا ينقطع عن الصراخ، إنه أحد الحواجز الذي يقول هذه هي بيت لحم، وهذه هي القدس، إنهما بعيدتان كما يشاء وقريبتان حينما يشاء، هكذا يظن، وكان على الرصيف، في الخارج، رجلان يحملان سلاحاً أوتوماتيكياً، رأيتهما بعد أن زَلَفت عنهما ولم أعرف أنني لم أشاهدهما إلا بعد التجاوز بقليل، ربما لأن عقلي كان في غير المكان، لم يعرني أي منهما اهتماماً، تناوشت مع سائق التاكسي وبمودة حول الأجرة وتراضينا بسرعة، وفي الطريق حفر كل منا في رأس الآخر بعض الأسئلة البريئة، والبراءة نسبية على كل حال، وأخيراً وصلنا المكان، نزل السائق ليتأكد أننا خرجنا من تعثرات البحث، ثم قال لي ويدي في جيبي:
- بَحبِحها شويّة،
وأظن أنه قد فرح قليلاً بعد ذلك.
- يا ساتر، قلت وأنا أهبط الدًّرَج الضيق والمنحدر، ولعل ذلك الدَّرج كان يصعدني في ذات الحزن.
- ........ ....... في بيتنا! قال باندهاش لافت.
ولمحت سيدة تنسحب من المكان انسحاباً مهذباً.
تعانقنا أنا ومحمد، وأخذت بخاطره، وقال مداعباً: أنت كما أنت، لم تتغير.
ثم قال: هذه القهوة لي فقد شربت منها، وأحضر قهوة جديدة.
ثم أخذت أتفرّس صديقي القديم،
أتفرّس الكلمات،
أتفرس الصمت،
أتفرّس الزمن، غيوم الزمن، معاول الزمن، أهوال الزمن، أرصفة الزمن، إغراقات الزمن، لجاجاته، رصاناته، ندوبه الغائرة، شِعره ونثره، وشرقه وغربه...
هيه... توقف، وين رحت! خليك معنا، وبعدين شو صار!
ثم... يااااااااااه.......! معكم حق.
...
ثمّ... تحدثنا...
...
وتحدثنا أيضاً عن جدران المنزل التي اختفت، تحولت إلى لغة، وأعطت الشمس حظوة الدخول حيث تشاء، وتحدثنا عن الأصدقاء الكتاب، وعن الخيمة الصغيرة التي جاءت لتقول أو تشي وتفترش الإغراق في التأمل، وأشعرت محمداً بأن بإمكانه تناول جميع المكالمات التي يشاء، فأنا أتفهم المسألة والتداخلات الهائلة والمذهلة، كان كعادته يتحدث وينساب شائقاً، يصغي للكلام القادم من الهاتف، وللكلام الذي يفرك عينيه ربما بحثاً عن إيقاعات عميقة، وللكلام الوسيم الرشيق الرخيم، وللكلام الذي يتحول إلى برتقال وعنب وأقلام رصاص وهدايا، وللكلام الذي يتحول إلى كلام، فهذا يقترح، وهذا يفسر، وهذا يلتحم، وهذا يقتحم، وهذه تستحضر الرؤى والإيقاعات من سفوحها البعيدة، وكان أيضاً يصغي للقرى والمدن التي تسند مرفقيها على خشب النوافذ الواجمة، وكنت وبغير قصد ألتقط بعض المفردات الفارعات، كنت أشاهدها وهي ترفع قبضاتها في الهواء وكذلك يفعل المتحدثون، وأعود إلى محمد، ويعود إلي، ونعود إلى السياق الذي انتظر، فلعلها مكابدة الحراك ما بين سطوة الراهن والغامض القادم، وأثناء إحدى المكالمات أحسست بأن حرّ الشمس الطارئة قد حفزني للإيماء برغبة الانتقال إلى ظل الخيمة المسترسلة في الإصغاء الجميل دون أن انتزع الرجل من سياقاته الجميلة الهائلة، وأخذنا نمسك بكل دقيقة أو شبه دقيقة جديدة ما بين مكالمة وأخرى، فنحشوها وننحشر فيها مع الذكريات والأسئلة، فالزمن مكثف، والرؤية مكثفة، والصمت مكثف، والحزن مكثف، وكانت تلك القطة تتلوى قربنا دون أن تموء، جاءني بوصية الشهيد فقرأتها وقرأته وقرأني. رَنَّ جرس الهاتف، وأظن أن هذه المكالمة قد ذكرته بموقف يطفح بوجع ما، ثم قال لي قلبي كلاماً سوف أخنقه بصدري.
نعم، أخنقه في صدري.
_ ولكن،
لكن ماذا! أرجوكم...!
ألم أقل بأني سوف أخنق كل كلام موجع وذلك اتساقاً مع هيبة العفة، ووفاءً للذين فهموا المعاني الرائعة للحياة وأمسكوا بها بعنفوان ومحبة.
ولعلي أحس أن علينا أن نتوقف بصرامة جميلة حتى أمام اشتهاءات من نحب.
..........................
ثم، وبعد دخولنا إلى منعطفات عدة، قال لي محمد:
لم يحن وقت البكاء بعد!
فأعدت العبارة كلمة كلمة،
وشجرة شجرة، وغيمة غيمة، وحرباً وراء حرب، وغيباً وراء غيب.
لم يحن وقت البكاء بعد!
الله........!
وحسبت أنها كانت فرصة طيبة، ورغيدة أيضاً، لكل الجبال الشامخات، والأنهار الشفيفة، لتجالس كل القصائد الحزينة ويغمرها الفرح.
أجزم أنها تسمعنا الآن.