حين تتحدث الإمبراطوريات بمنطوق العدالة التاريخية على الاحتلال أن يحمل عصاه ويرحل

كتاب
حجم الخط
انتظرنا هذه الجملة التي تنطق بمنطوق العدل وحتى الرحمة، على لسان الإمبراطورية ربما بصبر يحاكي صبر أيوب، وحيث الامبراطوريات في أزماننا المتأخرة هي التي تمثل بجبروتها دور الآلهة القديمة، لا برمزيتها القدسية ولكن ربما في وحدة تناقضاتها وأضدادها الداخلية بل البنيوية الكامنة أحيانا في منطقها، وهي التناقضات التي تجعلها اقرب في التصرفات والمواقف التي تجمع بين الوحشية والقسوة وانعدام الاعتدال في الانفعالات، على النقيض من ذلك تكشف جوانب العدل والرحمة والخير. 
ان جون ديوي الأميركي أبو الفلسفة البراغماتية ربما هو الذي صاغ هذه الثنائية المتعارضة ولكن الإشكالية التي تتعدى المنطق، في تحليل تناقضات السياسة الأميركية هي نفسها، في هذا الإسقاط الذي بدأنا به. ما حقق مأثرة وانتصار أيوب بالنهاية في رهانه على الجانب الخيّر الذي يرمز الى العدالة في المواجهة الصعبة والمكدرة للنفس مع هذا الإله القديم لأجل ترويضه، فهل كان هذا هو استثناؤنا مع الإمبراطورية الأميركية اليانكي القديم والحديث؟ الذي قال عنه ديوي انه يجمع بين الإقدام والخيانة، بين الشجاعة والخور، بين النبالة والنذالة. بحيث يتضح الآن ما بدا أنه رهان وأوهام خيالية تصدر عند تصورات واهية، حينما قال عرفات مبتدأ هذا الحوار زمن بيل كلينتون «لدينا الآن صديق في البيت الأبيض». وان صبر خلفه أبو مازن الذي مارس عملية الترويض التاريخية بالفعل للزعماء المتعاقبين على رأس الإدارة الأميركية، انما هو الذي يحق له الآن ان ينسب لنفسه هذا الانتصار والتحول الأكثر أهمية منذ العام 1948.
لقد كنا في الانتفاضة الأولى داود الذي انتصر بالمقلاع والحجر، وفي حرب غزة الأخيرة سيف جدعون، وها نحن اليوم في القصة نحاكي سفر أيوب، الذي يتفوق على كل المظالم التي لحقت به. انتصار أيوب الذي يمثل التحول الأهم في مجمل الدراما التوراتية لأنها تمثل الانتصار على الشر، وانكشاف المظلومية على حقيقتها باعتبارها غير قابلة للاستمرار، مظلومية الفلسطينيين التي تتمثل بالاحتلال «فهذا الاحتلال يجب ان ينتهي الآن». قالت الإمبراطورية ومن له إذن فليسمع التصفيق الذي رافق هذا القول، ومن له عين فليرَ ما بعد هذا القول.
نتعلم في الاستراتيجية المضادة «اللعبة المضادة» في حروب التحرر الوطني للجنرال الفرنسي بوفر، العوامل الثلاثة التي تضمن تحقيق الانتصار في هذه الحروب: 
أولاً عليك ان تقوض وتحطم استراتيجية العدو. 
ثانياً عليك ان تفكك تحالفاته. 
وثالثاً عليك ان تفكك تماسكه الداخلي. 
والذي يحدث أن الشرط الأول والثاني أصبحا متحققين ومنجزين الآن، فالاستراتيجية الاستعمارية الكولونيالية الإسرائيلية تم تحطيمها منذ زمن. ولكن ما جرى في الآونة الأخيرة وبفضل نتنياهو الأحمق هو توجيه الضربة القاصمة لتحالفات إسرائيل الاستراتيجية. فهل ان الشرط الثالث مرهون تحقيقه الآن بفعل انكشاف ظهر إسرائيل من هذه التحالفات؟ حين ستأخذ على عاتقها الإمبراطورية هذه المرة تحقيق هذه المهمة التاريخية والأخيرة؟ اذا كانت الإمبراطوريات كما المتحالفين في التاريخ يصلون الى لحظة الحقيقة في وقت ما من قبيل الانقلابات على هذه التحالفات التي تفقد مع الزمن مبررات قوتها والدوافع التي عقدت من اجلها. وان في صدارة أسباب انحلال هذه التحالفات القديمة ان إسرائيل ما عادت تؤدي أي دور او خدمة في منطقة تموج بالتغيرات والتناقضات، وترسم توازناتها وخرائطها من جديد، وتحاول الإمبراطورية جاهدة السير بين ألغامها لتعيد تركيب توازناتها، وربما الخروج منها. وانه في مثل هذه الأحوال حالهم كحال أفراد العائلات حينما يفشلون تبدأ المشاكل ويعلو بينهم الصراخ. 
هذه نهاية حقبة كاملة نقف الآن على مشارف غروبها وزوالها، فمن كان يتوقع ان دول الخليج بقيادة السعودية سوف تبين عن هذا العرض للقوة العسكرية غير المسبوق مبددة جميع الانطباعات السابقة لهذا التدخل العسكري الأكبر من نوعه لحسم الصراع على اليمن مع إيران، باعتبار أن هذه الدول لا تستطيع اتخاذ مبادرة عسكرية بهذا الحجم، وأين وزن ودور إسرائيل هنا؟ والجواب واضح ان مصير المنطقة يتقرر دون أي دور لإسرائيل، والشيء الوحيد الذي يجب ان لا ننساه هو ان ما يجري في الإقليم انما على صلة بما يجري من هجوم مواز كعاصفة أخرى من الحزم لإعادة موضعة إسرائيل في حجمها الحقيقي ونزع الاحتلال، فالآلهة القديمة لم تكن تحب الوقاحة، وهذا الرجل الذي يقود إسرائيل الى التهلكة تجرأ على الوقاحة وها نحن نتحقق اليوم بفضل هذه الأزمة من أسطورة جبروت وقوة اللوبي اليهودي في أميركا الذي يثبت الآن انه مجرد هراء ووهم، فالمصالح ثم المصالح ثم المصالح المادية، هي القانون والإله الأكبر الذي تعبده الدول والامبراطوريات. 
فهل يتبلور الآن أمام الرجل إدراكا وقد رأى بعينه في الأيام الأخيرة أن «الدق حامي»، بأن الخيار الوحيد أمامه الآن للنجاة بجلده من عاصفة الحزم الأميركية والأوربية، إنما هو بالتراجع خطوة إلى الوراء بالانحناء أمام العاصفة؟ والتخلي عن مجموعة المجانين من الأحزاب اليمينية المتطرفة والذهاب الى تشكيل حكومة وحدة وطنية مع حزب العمل؟ وهي رغبة لوح بها الأميركيون ولمح لها أبو مازن، من انه يفضل هو أيضا ان يكون ما يسمى بالمعسكر الصهيوني جزءا من الحكومة العتيدة في إسرائيل، وهو الخيار الوحيد الذي يضفي قدرا من القبول الدولي للحكومة الإسرائيلية، وتاليا جر الرجل من قفاه للشرب من البئر.