مذبحة الفلاسفة.. مدينة تدمر و"لعنة التاريخ"

441
حجم الخط

لعل من الصعوبة بمكان قراءة رواية "مذبحة الفلاسفة" للفلسطيني السوري تيسير خلف عن تاريخ مدينة تدمر السورية من دون الإحالة إلى واقع حالها، وتناوب النظام وتنظيم الدولة الإسلامية السيطرة عليها مؤخرا، وتدمير جزء مما تبقى من شواهدها الأثرية والتاريخية في حرب مستمرة. 

يعود الفلسطيني تيسير خلف في روايته إلى تاريخ مدينة تدمر للتأكيد على أهمية الدور التاريخي الذي لعبته في تاريخ المشرق والعالم القديم، وكيف كانت ملكتها زنوبيا تهتم بالحكمة والمعرفة والعلم، وتستعين بالحكماء والفلاسفة لينهضوا بدورهم التنويري المنوط بهم. 

سطوة الألم
ويؤرخ الكاتب بطريقة درامية للصراعات التي كانت تعترك بها المنطقة، والحروب التي كانت تنشب في مسعى للهيمنة والتسلط، كما يصور الصراعات الداخلية التي كانت تكثر بين الأسر الحاكمة والمحيطين بها وبين رجال الدين، وواقع أن الفلاسفة كانوا حجر الأساس في بناء الإمبراطورية التدمرية، ويسوق أمثلة تاريخية على ضرورة التسامي على الجراح والمضي نحو الغاية المتمثلة بتأسيس جمهورية أساسها القيم والأخلاق وقوة المعرفة، بعيدا عن التورط في حروب عبثية. 

يستهل الروائي عمله باستعراض تواريخ هامة متسلسلة، فيبدأ بسنة 224م حين تسلم أردشير حكم بلاد فارس، مرورا بتدمير وحرق موانئ ومدن الخليج على يديه سنة 230م، وكذلك اغتيال الملك التدمري أذينة وتولي معن سنة 267م، وبعدها اغتيال معن وتولي وهب اللات ووالدته زنوبيا الحكم سنة 268م، وصولا إلى سقوط تدمر وإعدام لونجينوس والفلاسفة سنة 273م.

"تقترب الرواية من البحث التاريخي ولا سيما أن هناك حرصا على توثيق الأحداث بالتفاصيل والتواريخ، كما أن الروائي لا يخفي استفادته من مراجع تاريخية اعتمد عليها في بناء روايته"

الراوي حنبل بن جرم اللات كبير كهنة تدمر يروي حكاية اقتيادهم من تدمر إلى روماوسجنهم في قصر تيبور، وكيف أن إمبراطور روما أورليانوس اختار أن يسجنه مع الملكة زنوبيا وأبنائها وبناتها وحاشيتها في أحد القصور الثلاثين التي تشكل المجمع الإمبراطوري الكبير المسمى "فيلا هدريانا".

ويلفت إلى أن هدف أورليانوس اللئيم من سجنهم في ذاك المكان الملعون هو أن تحل في ملكتهم روح ملعونة تقودها إلى الألم والجنون، وبرغم محاولاتها الحثيثة بعدم الارتهان لسطوة الألم فإنها لم تفلح في المقاومة طويلا، وقضت بطريقة مأساوية.

يستعيد الكاهن حنبل مشهد مدينة تدمر وهو يغادرها إلى سجن روما، في صورة أقرب ما تكون إلى واقعها الحالي، يصور حرائق تعمها وسحابات دخان تسود أجواءها، وبين كل ذلك أسراب التدمريين الهائمين على وجوههم فرارا إلى جهات الأرض الأربع. ويكون المشهد الأكثر إيلاما متجسدا في إعداد أورليانوس محكمة ميدانية في 
حمص، وإعدام فلاسفة تدمر في مذبحة جماعية، بتهم عديدة بينها التحريض ضد روما. 

يتساءل الراوي الذي يسترجع تلك الأحداث المؤلمة عن أسباب المذبحة تلك ودوافع أورليانوس  لارتكابها بحق فلاسفة سلاحهم الكلام فقط، وتراه ينشغل بمحاججات فلسفية تدور بين الشخصيات عن مفاهيم مثل القوة والعدل والحرب والتأمل والدين والفضيلة والقيم والأخلاق.. وغيرها.

معسكر الفلسفة
تقترب الرواية من البحث التاريخي، لا سيما أن هناك حرصا على توثيق الأحداث بالتفاصيل والتواريخ، كما أن الروائي لا يخفي استفادته من مراجع تاريخية اعتمد عليها في بناء روايته، وهو الذي اشتغل سابقا على تحقيق العديد من الوثائق التاريخية المتعلقة بالمنطقة والشرق.

"يلفت تيسير خلف إلى أن الهاجس بالنسبة له لم يكن توظيف التاريخ لخدمة فكرة معاصرة، بل فهم التاريخ لفهم المشكلة المعاصرة، ويعتقد أن هذا الشيء يحرر الكاتب أو الباحث من الأفكار المسبقة التي تؤدي إلى التعسف"

يسلك صاحب "عجوز البحيرة" دربا سلكه روائيون آخرون من قبله، منهم الإيطالي أمبرتو إيكو في روايته الشهيرة "اسم الوردة"، وكذلك المصري يوسف زيدان في روايته "عزازيل"، ويفترق في عمله بالإطار المكاني والسياق الزمني، لكن الفكرة المحورية تكون هي ذاتها تقريبا، لاسيما في الاعتماد على الحيلة الروائية المكررة في الرواية وهي العثور على مخطوط تاريخي كتبه أحدهم، ثم عثر عليه آخرون في مكان ما، وحاولوا ترجمته وفك أسراره وكشف النقاب عنه، وذلك في محاولة لإضفاء نوع من المعاصرة والدرامية والتشويق على الأحداث. 

في تصريح خاص للجزيرة نت يلفت تيسير خلف إلى أن الهاجس بالنسبة له لم يكن توظيف التاريخ لخدمة فكرة معاصرة، بل فهم التاريخ لفهم المشكلة المعاصرة، ويعتقد أن هذا الشيء يحرر الكاتب أو الباحث من الأفكار المسبقة التي تؤدي إلى التعسف.

ويصف خلف عمله بأنه إعادة قراءة لتاريخ منطقة المشرق بعيدا عن ثنائية شرق وغرب أو محتلين وخاضعين للاحتلال، التي كرستها الرؤية الأيدولوجية لمؤرخي القرن العشرين، ويصف الأمر كما بدا له أنه لا يقع ضمن هذه الثنائية الاختزالية بل هو أعمق بكثير، يقول "إنه الصراع بين أصحاب المثل وأصحاب المصالح". 

كما يشير إلى أنه يبدو له أن ما حصل مرتبط بتحول نوعي كان يشهده العالم، بين مسيحية ناهضة تحمل أيدولوجية استئصالية، وفلسفة آيلة إلى السقوط تحاول أن تحافظ على نفسها قدر الإمكان، ولكن في فترات لاحقة انتصرت المسيحية وماتت الفلسفة، وكانت تدمر يومها تتزعم معسكر الفلسفة.

أما بالإشارة إلى الجانب الفني والأسلوبي فيذكر خلف أنه حاول بقدر ما يستطيع اعتماد طرائق السرد القديمة فيما يتعلق ببناء الجمل والتشبيهات والاستعارات وصيغ المبالغة والتعبير، واعتمد في ذلك على مؤلفات كثيرة لبورفيريوس وداماسكيوس ويمبليخوس وغيرهم من كتاب وفلاسفة تلك العصور، وحاول قدر المستطاع أن يبني نصه وفق منطقهم اللغوي، لأن التقنية الروائية التي اعتمدها هي تقنية المخطوط القديم المعاصر للأحداث.