استغلت الجماعات المسلحة والدول الداعمة لها في سوريا فترة الهدنة، وحصلت علي أسلحة متطورة، منها صواريخ مضادة للطائرات، غالبا من طراز تاو الأمريكي، وآلات حديثة لحفر الأنفاق من ألمانيا، قيمة الواحدة نحو ستة ملايين يورو، وقادرة علي الحفر السريع والآمن علي أعماق مختلفة، وهو ما يمكنها من تجنب ضربات الطيران الروسي والسوري، وجري رصد سفينة أمريكية محملة بالأسلحة، جري تفريغ حمولتها في كل من تركيا والأردن، في الوقت الذي كشف فيه رئيس الوزراء الإسرائيلي نيتانياهو أن إسرائيل ستواصل عملياتها العسكرية داخل سوريا علي المواقع التي تشتبه في أنها لمقاتلي حزب الله. هذا ما شجع الجماعات المسلحة علي شن هجوم واسع علي ريف حلب الشمالي والجنوبي خلال الأيام الماضية، في محاولة لاستعادة بعض المواقع والبلدات التي انسحبت منها، وإبطاء زحف الجيش السوري علي مواقع داعش شرق سوريا.
أدركت الجماعات المسلحة وداعموها أن الهزيمة السريعة لداعش سوف تكون نصرا مدويا للجيش السوري، وتضعف المعارضة عسكريا وسياسيا، قبل انطلاق الجولة الجديدة لمفاوضات جنيف.
ترافق هجوم الجماعات المسلحة مع تصريح الرئيس الأمريكي أوباما عن رفضه استمرار الرئيس السوري بشار الأسد في الحكم خلال الفترة الانتقالية، وهو تراجع عما سبق الاتفاق عليه مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن ترك مصير الأسد ليقرره الشعب السوري، وعدم طرح النقاش حوله في مفاوضات جنيف.
هذا الموقف الجديد يشكل ضربة لما تم الترويج له عن توافق غير مسبوق بين روسيا وأمريكا حول الوضع في سوريا، والذي كاد يتحول إلي يقين لدي كثير من الدبلوماسيين والمراقبين، ورأوا أنه سيرتب واقعا جديدا في المنطقة، وسيصبح مدخلا لترتيبات حول باقي المناطق المتفجرة، فلماذا حدث هذا التحول؟رأت الدول الداعمة للجماعات المسلحة أن استمرار التفاوض تحت دوي انتصارات الجيش السوري المدعوم من روسيا وإيران سيبدد ما تبقي من أحلامها في تحقيق أي مكسب في سوريا، وسيكرس انتصار روسيا والنظام السوري، الذي لن يكون مضطرا لتقديم تنازلات ذات شأن، ولا سبيل لأي مكسب إلا بمحاولة تعديل الوضع الميداني، وهو ما تتحمس له كل من تركيا والسعودية، وهما الطرفان الأكثر انخراطا في الأزمة، وأهم حلفاء أمريكا وأوروبا في المنطقة، خاصة أن الرئيس الأمريكي سيزور دول الخليج قريبا، لمناقشة الأزمات التي تواجه المنطقة، والترتيبات المشتركة لتعزيز أمن دول الخليج، ومن الضروري أن يخفف أوباما من وقع صدمة حديثه المسمي «عقيدة أوباما»، والذي تضمن انتقادات لاذعة لحلفائه في المنطقة، وعليه أن يذهب وهو لا يبدو في مظهر المتخلي عنهم في مثل هذا الوضع الصعب.
لم تحقق الجماعات المسلحة في سوريا الكثير، حتي إن الانتخابات البرلمانية السورية جرت في هدوء، ولم يعكرها سوي بضعة صواريخ سقطت علي حي للأكراد في شمال حلب، لكن الهجوم كان له صداه السييء في موسكو، وأعلن بوتين أنه لن يتواني في الرد، وبالفعل انطلق هجوم معاكس للجيش السوري وحلفائه، ولم يستهدف فقط تلك المناطق التي انطلقت منها قذائف الهاون ومدفعية وصواريخ الجماعات المسلحة، وإنما يبدو أن هجوما واسعا سوف يشمل كل الجماعات التي خرقت الهدنة، وتراها موسكو ودمشق إرهابية.
وهكذا جاء هجوم الجماعات المسلحة ليكون المبرر الذي تنتظره موسكو ودمشق وطهران لضرب مختلف الجماعات المعادية، وهو ما يؤشر إلي أن أياما أصعب سوف تواجه الجماعات المسلحة في سوريا، حتي مع حصولها علي أسلحة وحفارات حديثة، وستعود الجبهة الرئيسية في حلب إلي الانفجار، وربما تمتد إلي جسر الشغور وإدلب، وهي أهم معاقل الجماعات المسلحة في شمال غرب سوريا.أما اشتباكات مخيم اليرموك جنوب دمشق، والذي كان يسمي «عاصمة الشتات الفلسطينى» فقد سيطرت داعش علي معظمه بسرعة، ربما لتعويض بعض الخسائر ورفع المعنويات، لكن هذا المخيم الرمز يبدو أنه يكتب سطورا برماد المعارك، تكشف العلاقة بين «حماس» المرتبطة بجماعة الإخوان مع الجماعات التكفيرية، وفيه تحول مسلحو حماس إلي جماعة تسمي «أكناف بيت المقدس» ثم غيروا ولاءهم ليصبحوا جزءا من جماعة النصرة، وفي المعركة الدائرة أعلن معظمهم الانضمام إلي صفوف «داعش»، في نهاية مأساوية لأكبر المخيمات الفلسطينية، والذي لم يكن يرفرف فيه سوي علم فلسطين، وتخرج منه آلاف المسلحين الذين لم يحلموا سوي بتحرير فلسطين، لتنقلب بندقية حماس لتضرب دمشق، التي قدمت لها السلاح وكل أنواع الدعم.
سقوط مخيم «اليرموك» بعاصمة الشتات الفلسطيني في أيدي داعش سيكون مبررا لحصاره ومهاجمته، بعد استكمال نقل ما تبقي من مدنيين، ليتحول «اليرموك» إلي أطلال تجسد المرحلة الأكثر مأساوية في فصول القضية الفلسطينية والأوضاع العربية، والتي تفاقمت خلالها الخلافات وتحولت إلي قتال يستنزف المال والسلاح والأرواح العربية، وليصبح مخيم اليرموك ساحة للقتال بين الفلسطينيين الذين يحملون رايات داعش والنصرة السوداء، وانزوي علم فلسطين الذي طواه المدنيون بين أغراضهم، وهم يتسللون إلي خارج المخيم، ليبدأوا رحلة جديدة للبحث عن مأوي جديد للشتات.
عن الاهرام