شتّان ما بين الخطاب الراهن لحركة المقاومة الإسلامية "حماس"، في فلسطين، وخطابها قبل أعوام، بشأن هويتها السياسية والاجتماعية. فهي تجسّد الآن خطاب الهوية الوطنية ذات المرجعية الثقافية الإسلامية، بينما كانت قبل الأزمة التي عاشتها بعد نهاية حكم الإخوان المسلمين في مصر، تميل نحو الخطاب الأممي الكلاسيكي.
شهد العام 2008 لحظة صعود لافت لخطاب جماعة الإخوان المسلمين الأممي، أي الذي يؤمن بالولاء والانتماء لحركة عابرة للحدود (الإخوان)، عندما قام القيادي في الجماعة عبدالفتاح دخان، أمام حشد قدرته مصادر بنحو 200 ألف شخص، في قطاع غزة، بالطلب من الجماهير، وبعد الإشادة بمؤسس "الإخوان" حسن البنا، أن ترفع يدها وتقسم "قسم البيعة" من خلفه (من دون التوضيح سلفا لم ستقسم عليه): "أعاهد الله العلي العظيم على التمسك بدعوة الإخوان المسلمين، والجهاد في سبيلها، والقيام بشرائط عضويتها، والثقة التامة بقيادتها، والسمع والطاعة في المنشط والمكره...". هذا القسم "منزّه" من الوطنية المحلية، وقيادة "الإخوان" ليست فلسطينية، ولا يوجد وضوح ماذا لو تعارض الولاء للإخوان مع الشأن المحلي.
وقد اتضح ارتباط "حماس" كثيراً مع حسابات السياسة العربية إبّان "الربيع العربي"، بالرهان على ما يعنيه ذلك للحركة. ويمكن القول إن قَسَما كالذي قاد دخان الجماهير إليه، كانت له تجليات منها، مثلا، قيام عناصر من كتائب عزالدين القسام، العام 2013، برفع شعارات رفعها الإخوان المسلمون وأنصارهم في مصر، خصوصاً بعد خروجهم من السلطة، ما اضطر قيادة الحركة، السياسية، خصوصاً في الخارج، إلى الاعتذار عن ذلك للمصريين، لاسيما بعد أن تحول هذا الموقف إلى سيف مسلط على رقبة الحركة. وعلى سبيل المثال، اضطر عضو المكتب السياسي لحركة "حماس"، موسى أبو مرزوق، إلى الاعتذار عنه أمام قناة تلفزيونية، وقال إنّه تصرف ارتجالي وخطأ أفراد.
ومع تحول علاقة "حماس" مع "الإخوان" إلى أزمة، باتت قيادة الحركة تؤكد أن أي ارتباط لها مع الجماعة الأم ليس سوى انتماء فكري وثقافي، وليس هناك أي علاقة تنظيمية. والآن، مثلا، تجد على موقع الحركة على الإنترنت، تحت عنوان "من نحن"، عبارات تؤكد أنّ "حماس حركة وطنية فلسطينية، تعمل مع شعبها في الداخل والخارج ومع مجموع القوى والفصائل الوطنية الإسلامية على مقاومة الاحتلال الصهيوني". وبينما تقول "حماس جزء لا يتجزأ من أمتها العربية والإسلامية"، فإنها تشير إلى أنّ "قرار حماس ينبع من قيادتها ومؤسساتها القيادية، ومنطلق من مصلحة شعبها ومتطلبات قضيتها الفلسطينية، ولا دخل لأحد في قرارها، وليست متداخلة تنظيمياً مع أي تنظيم أو حزب أو دولة".
تغير خطاب "حماس" في السنوات الأخيرة. فحتى على المستوى الاجتماعي هناك أمر مختلف؛ فقنواتها التلفزيونية تستخدم الموسيقى التي كانت تحرمها (جماعة الإخوان) سابقاً، وتستخدم مذيعات، وهو اختلاف آخر عن الخطاب الإخواني الكلاسيكي.
ولكن بينما تجري محاولات من بعض شرائح "حماس" في قطاع غزة لفرض الحجاب في المدارس وأماكن العمل، فإنّ الطلبة القريبين منها في الضفة، ينشرون على "الإنترنت" فيديوهات فكرتها الأساسية أنّه لا داعي لتكوني فتاة محجبة لتكوني مع الكتلة الإسلامية.
في الواقع أنّ الهوية القُطرية (التي تؤمن بوطن ووطنية مرتبطة بحدود الدول الراهنة التي تشكلت في القرن العشرين)، باتت أمرا تجمع عليه القوى العربية، من أنظمة وأحزاب مدنية، من دون أن يعني هذا التنكر للموروث العربي والإسلامي الموحد. فقد أصبحت هناك دول مستقلة ذات هوية وطنية، ولكنها عربية وإسلامية في الوقت ذاته. بمعنى أنه صار هناك فصل بين الوطني الذي يتم الالتزام بالولاء له، وبين المحتوى الثقافي الإسلامي والعربي للإنسان داخل هذه البلدان، فضلا عن أهمية هذا المحتوى لعلاقات خاصة بين هذه الدول، عبر مشاريع مشتركة ومجالس تعاون وجامعة عربية، ولكن من دون تخطي الحدود الوطنية.
هذا هي حال الهوية عربياً، و"حماس" في خطابها النظري الآن تتبنى ذلك. لكن جزءا من التغير نابع، كما يتضح من سياق الأحداث، من ضغوط الواقع السياسي الإقليمي، وللحصول على التأييد الشعبي. وسيبقى السؤال: كم سيتكرس هذا التحول عقائدياً لدى الحركة، ويصبح محصناً من ألعاب توازنات القوة؟
عن الغد الاردنية