نهاية زمن محاباة العالم لإسرائيل

Auther
حجم الخط

 

 

 
 

ضغط فلسطيني مزدوج ولكن محسوب:
يتعلم الفلسطينيون مع الوقت وقد مر وقت كاف لأجل هذا التعلم، كيف يتعاملون مع عدو بات مع مضي الزمن والوقت يفتقد جزءاً من حنكته وذكائه السابق، بتفوق واضح على محور نوعية القيادة والإدارة الاستراتيجية كما العملياتية لمجموع العناصر المكونة لهذا الصراع. وان هذا الاستنتاج هو الدلالة الوحيدة التي يمكن استخلاصها في محصلة تصعيد مزدوج بل ومركب وعابر، ومتجاوز للانقسام سياسي وعسكري في آن وحربي وغير حربي. ولكنه محسوب بدقة وخبرة وذكاء عالي المستوى، مارسته كل من رام الله وغزة، أبو مازن و»حماس» ودونما تنسيق مسبق كما لو انه يرفع منسوب الضغط الفلسطيني على محور الإدارة العملياتية للصراع من الجانب الفلسطيني، درجة اعلى ربما اشبه باللسعات او قرصة الأذن، ولكنه في مغزاه الرئيسي ابعد من ذلك. 
لنراه اذاً في هذا السياق نوعاً من الصراخ العالي او تبادل في اللكمات، ولكن الذي يخدم او يستهدف إطاراً او عملية تفاوضية، تجري في مكان آخر بالإنابة عن الطرفين، حيث تفاوض تركيا عن «حماس» وغزة وتفاوض فرنسا وأوروبا وباراك أوباما حتى في أيامه الأخيرة عن أبو مازن. وهذه هي المسألة في الواقع. 
والذي حدث كان ذكاءً من الرئيس أبو مازن الأقدام على اتخاذ هذه الخطوة التصعيدية عشية اللقاء الدولي المنتظر نهاية الشهر، في مناخ سياسي ضاغط على إسرائيل لم يسبق له مثيل، والشيء نفسه ينطبق على «حماس» التي تنتظر اللقاء التركي الإسرائيلي الحاسم في تقرير مصير رفع الحصار عن غزة منتصف هذا الشهر، وان التحول المهم هنا بل الاستراتيجي ان الفلسطينيين وعلى جانبي المتراسين أي في غزة ورام الله، لم يعودوا بحاجة للتفاوض المباشر مع إسرائيل بعد ان أصبحت إسرائيل تواجه لأول مرة عالماً آخر وجديدا لم تعرفه من قبل. هو الذي يفاوضها نيابة عن الفلسطينيين. وحدث هذا التحول الجديد والنوعي لأن إسرائيل لم تخسر تفوقها القديم على محور مجموع ادعائها عن طهارة السلاح، واحترامها للقيم والمعايير الأخلاقية. وانما فقدت نوعية القيادة وتفوقها على هذا المحور الاستراتيجي.
لم تكن مرة سابقة القضية الفلسطينية في صلب الانتخابات الأميركية:
ولّى اذن ذلك الزمن الأقرب عهدا والذي كنا نقف فيه كالأيتام على موائد اللئام، نراقب محبطين وشبه منبوذين، نترقب كلمة حق وإنصاف او مجرد إشارة ولو غامضة تشير الى قضيتنا او مظلوميتنا، في هذا السعار المحموم من سباق المزايدات في حب إسرائيل، والتعهد بمواصلة دعمها في غضون هذا العرض المتواصل.
فجأة ومن دون تمهيد او إنذار شيء ما يكسر بما يشبه انقلابا في المعايير والتوازنات او تحطيم الأصنام والتابوهات، لا مجرد اشارة غامضة تدل علينا وانما هو حضور باهر وغير مسبوق يدخل حتى في صلب التفاصيل للقضية الفلسطينية، وكأنما الغائبون يعاودون الحضور والكلام واكتشاف الحجر، حجر الزاوية الذي تجاهله البناؤون طويلا.
صحيح ان بقايا تاريخ طويل من ارث قديم لا يزال يسمع صداه بوضوح في مواصلة إظهار هذا الملق مدفوع الثمن والأجر لإسرائيل، لكن ما كان واضحا هذه المرة أيضا ان هذا الملف نفسه لم يكن هو نفسه. وان كلاما جديدا يقال عن العلاقة مع إسرائيل، وان شيئا مسكوتا عنه وغامضا يختفي خلف اللسان.
ولعلنا لتوضيح وجهة السفر المقبلة نحدد ثلاثة اتجاهات تمثل ثلاث سياسات يطرحها المرشحون الثلاثة، بعد السقوط المبكر لما يمكن اعتباره ممثل الخطاب القديم أي المرشح الجمهوري المنافس لدونالد ترامب.
ثمة هنا على اليسار المرشح الديمقراطي اليساري ساندرز، وثمة هنا على يمين الوسط السيدة كلينتون، وثمة هناك على الطرف الأقصى المرشح المثير للجدل دوماً دونالد ترامب، الذي تبدو مواقفه حقا الأكثر مدعاة للإثارة والغموض وكأنه الزعيم القادم من أوروبا الثلاثينات، بمزيج مركب من العنصرية والفاشية في أداء خطابي اقرب الى التهريج، ولكن مع صراحة فظة تحاكي أحيانا الحقيقة او ما لا يقال في تمرد وخروج واضح على نمطية الخطاب الأميركي المعهود.
لو كان لي ان اعبر عن أمنية خاصة ولكنها ربما تحاكي رغبة كل الفلسطينيين، فإنني أتمنى فوز ساندرز الذي تحدث بوضوح وهو يهودي بالمناسبة عن القضية الفلسطينية بل المظلومية الفلسطينية ولأول مرة كما لو انه يستحضر روح الرئيس الأميركي العام 1916 ودرو ولسون، الذي دعا ووقف مع حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني ضد موقف بريطانيا وفرنسا في ذلك الوقت، وضد إنشاء إسرائيل في فلسطين.
والحق يجب ان يقال وهذه واحدة من المفارقات بل المفاجآت غير المتوقعة ان أول من قام بحمل الفأس وتحطيم الصنم هو دونالد ترامب، حينما أدلى بموقفين لم يصرح بهما مرشح أميركي في ذروة حملته الانتخابية من قبل، الموقف الأول انه عندما قال إنه سوف يكون وسيطا حياديا في المفاوضات التي ترعاها أميركا بين الفلسطينيين وإسرائيل، ام الموقف الثاني ولم يكن اقل وقعا في تأثيره الصادم على نتنياهو، عندما قال ان على إسرائيل ان تدفع  نقدا كالسعودية وألمانيا ثمن كل قطعة سلاح كانت تقدمها أميركا في السابق مجانا، الأمر الذي دعا نتنياهو ان يعيد النظر في موقفه السابق، بانتظار الرئيس الأميركي القادم للتفاوض معه، على صفقة المساعدات لإسرائيل .
وهذا الموقف غير المألوف كان يعكس احد أوجه التناقضات التي تستعصي على التحليل في خطاب الرجل، ولكن ما فعله ترامب بكسره لهذا الحاجز والتابو انه اطلق لسان ساندرز من محبسه، ليقول هذا السناتور اليهودي ما هو مقتنع به ويعبر عن مزاج الشباب الأميركي واليهودي من الضجر تجاه سياسات إسرائيل، ويتحول الى مهاجمة هيلاري كلينتون في نقطة القوة الجديدة التي تظهر الاعتراف بمظلومية الفلسطينيين، والدعوة الى إنصافهم. بخلاف خطاب كلينتون القديم في محاباة إسرائيل، ما اضطر هذه الأخيرة الى ان تؤكد على حل الدولتين وتعيد التأكيد على الموقف الأميركي المعروف من الاستيطان.

أوروبا التي تراجع نفسها:
من أوروبا وفي ذروة تحول الرأسمالية الى اعلى مراحلها الامبريالية والاستعمار، وتحديدا في بريطانيا وعاصمتها لندن التي لم تكن الشمس في ذلك الوقت تغيب عن   امبراطوريتها، اتخذ القرار المشؤوم باختراع إسرائيل التوراتية مكان فلسطين التاريخية. وها نحن شهود بعد مائة عام عن تلك الأيام التي يقلبها التاريخ بين الأمم والناس، فما الذي نسمعه اليوم ويتردد صداه في الاخبار عن الكلام الذي يقال ويتم تداوله في عاصمة الضباب؟.
هذا كلام آخر وجديد لم يُقَل في مرة سابقة ويكسر تابوهات وأصناما أُخرى، كما لو ان معاول الهدم بدأت بعد هذه المئة عام في الانقضاض على صورة الوعد المشؤوم. وكما لو ان بريطانيا تراجع نفسها في مواجهة نفسها مع تاريخها.
قالت إسرائيل التي لا تريد ان تصدق ان ما تسمعه حقيقة، وغير مدركة الى الآن ان العالم القديم الذي تعرفه قد تغير ولم يعد قائما، بان هذه خلافات حزبية داخلية او معاداة أخرى للسامية تطل برأسها من جديد.
لكن من أميركا الى أوروبا كلمة واحدة تقال وكانت هذه الكلمة طوال الوقت ملقاة على قارعة الطريق، وأعدنا قولها هنا مراراً ان «الدرس انتهى يا غبي». فاذا أرادت إسرائيل الطماعة والتوسعية وغير القنوعة بما حصلت عليه وأخذته في العام 1948، وسلم لها به الفلسطينيون المغلوب على امرهم وذهبوا لابتلاع الجزء القليل الذي تبقى للفلسطينيين، فسوف تفقد كل شيء لا ذلك ولا هذا، وهذا كان واضحا منذ أيام طاغور الحكيم، فاذا أردت ان تكمش أحمقَ او قوياً دعه يتمدد. وكتب فيما بعد المؤرخ بول كيندي واحد من اهم ما كتب في القرن العشرين عن فلسفة التاريخ هذه، في تمدد الدول لأكثر مما يستطيع حلقها أن يبتلعه