وظفّنا، في مقالة سبقت، التعبير الفرنسي الشائع (Déjà Vu) للقول: إننا رأينا هذا من قبل، في القرون الوسطى. الإحالة، هنا، تنطوي ضمنياً على ضرورة قراءة الظواهر في تاريخنا، باعتبارها جزءاً من تاريخ العالم، وبهذا نكون نحن، أيضاً، في العالم، ومنه. ونعود إلى التعبير، نفسه، لنضع "فيديو غزة" في سياق أقرب زمنياً ومكانياً، أي محاكاة النموذج الوهابي السعودي، الذي تحتل فيه الدموع مكانة مركزية. البكاء ردة فعل طبيعية مشتركة بين بني البشر. وبالقدر نفسه مسألة ثقافية، أيضاً. فالتأويل الاجتماعي للبكاء يختلف من ثقافة إلى أخرى. في ذاكرة العرب حكاية أبي عبد الله الصغير، آخر ملوكهم في الأندلس، وكلام أمه يوم سقوط غرناطة عن بكائه كالنساء على ملك لم يصن حرماته صون الرجال. هذه حكاية مُلفقة، على الأرجح، وتنتقص من قدر النساء، عندما لا تجد من شبيه لرجل مهزوم سوى المرأة، ولكنها تنطوي على تأويل لمعنى الذكورة والأنوثة، مثّل، ولا زال، جزءاً من الثقافة السائدة في المجتمعات العربية، ولا يمكن تعميمه على كل بني البشر، حتى وإن أمكن العثور على أصدائه الباهتة في مجتمعات وثقافات كثيرة. وعلى الرغم من حقيقة أن العواطف، والمشاعر الإنسانية، والروحية، تتجاوز الخصوصيات القومية والثقافية، إلا أنها تظل محكومة بشروطها، وشفرتها الدلالية. في البوذية، مثلاً، لا تحتل الدموع مكانة خاصة. وفي التقليد الإسلامي الشيعي يُمارس البكاء كجزء من عملية تكفير جمعية عن ذنب عابر للقرون، كما في طقوس كربلاء. وفي التقليد المسيحي يقترن البكاء بطقس الاعتراف الكنسي. الفكرة الأساسية، هنا، أن دلالة البكاء ثقافية، في المقام الأوّل، وما يتجلى من الدموع في حالات الحزن الشديد، والفرح الغامر (وهذا مشترك بين بني الإنسان) يخضع لضوابط اجتماعية، وقنوات صرف دلالية، خاصة بهذه البيئة الثقافية أو تلك. وهناك، في الواقع، ما لا يحصى من التأويلات، ودراسات الحالة، التي أجراها مختصون في علوم النفس على اختلاف فروعها ومدارسها، لتفسير الدموع، ودوافع البكاء في ثقافات مختلفة. المهم، وبقدر ما يعنينا الأمر، أن الدلالة الثقافية أقوى ما تكون في الطقس الجمعي، أي في مناسبة تحكمها تراتبية من نوع ما، ويلتقي فيها جمع من الناس، ويتم الاتصال والتواصل فيها على عدة مستويات لغوية كاللسان والجسد، وتتقلّص فيها الكينونة الفردية بقدر ما تلتحم عاطفياً بالجماعة. والمهم، أيضاً، أن اللسان والجسد، ينطقان بالمتوقع منهما، في متوالية مُكررة للتصعيد الدرامي، في سياق سيناريو مُضمر. هذا ما عرفه البشر على مدار قرون طويلة تعود إلى ما قبل التاريخ. وكانت له، وما زالت، خصائص علاجية (شفاء أو تقويم الفرد والجماعة) لتحقيق أغراض اجتماعية، وسياسية في المقام الأوّل. بكلام آخر: الطقس الجمعي مشروط بالأداء التمثيلي، وغاياته اجتماعية وسياسية. هذا ما يُلاحظ في طقوس مُعلمنة، مثلاً، في علاقة الجمهور بزعيم كاريزمي يمارس عليه، باللسان والجسد، ما يشبه التنويم المغناطيسي. وبقدر ما يتصّل الأمر بالطقس التمثيلي الوهابي يحتل البكاء مكانة استثنائية. ويمكن، في هذا الصدد، العودة إلى ما لا يحصى من الأشرطة المُصوّرة على اليوتيوب لملاحظة: كيف تنهمر الدموع بعد نجاح هذا الداعية أو ذاك في استنباط ما غاب من المعنى عن أذهان سامعيه، وكيف تتلاشى الحواجز بين الأجساد، وقد أصبحت أكثر مرونة وقابلية للاحتكاك بمَنْ جاورها، بالعناق، والملامسة الجسدية، بعدما التحم الحاضرون في جسد أكبر تجاوز حدود، ومحدودية، أجسادهم. في سياق كهذا، تقوم الدموع مقام الزيت لتليين ما تحجّر في الجسد من عاطفة، والدموع لغة، أيضاً، باعتبارها علامة خارجية، تقبل القراءة والترجمة، من جانب المشاركين في الطقس نفسه. وعلى الرغم من حقيقة أن التجربة الروحية جوّانية، وفردية، في الجوهر (أو هكذا ينبغي أن تكون) إلا أن البحث عمّا يدل عليها، في علامات خارجية، تؤكد حضورها، يدل على ارتياب القائمين على طقوس كهذه في احتمال أن تكون قد حضرت بالفعل، أو حتى في جدوى حضور كهذا، ما لم يُترجم في علامات خارجية تدل عليه. ومن هنا يستمد الطقس طابعة الحركي، لتقصير المسافة بين التجربة الروحية، وهي فردية خالصة، والفعل السياسي، وهو جمعي: ما ينبغي، أو ما لا ينبغي، أن يكون في حياة الآخرين. وهنا، أيضاً، يُولد العنف. ولكن لماذا تنجح ممارسات طقسية كهذه في الانتقال من بيئة ثقافية إلى أخرى، (حتى بديكور الملابس، وطبقات الصوت)، على الرغم من اختلافات كثيرة بين قاطني سواحل المتوّسط، والبيئة الصحراوية، التي كانت مصدر تهديد دائم، على مدار آلاف السنين؟ ربما بساطة الطقوس المعنية، هي السر الرئيس في الانتقال، وكذلك توقيت وصولها، وما توفّر لدى القائمين عليها من وسائل الاتصال والتأثير. فهي حَرفية، لا تحتمل التأويل، أو الاجتهاد، وصلت في زمن انهارت فيه المدن والحواضر، وكان القائمون عليها جزءاً من مشاريع للهيمنة السياسية والأيديولوجية لدول أفاقت ذات يوم على ثروات هائلة، وتصادف أنهم كانوا حلفاء للمنتصرين في الحرب الباردة. وترافقت هذه التحوّلات والأحداث مع ظهور وسائل وتقنيات الاتصال الحديثة. (هذا ليس موضوعنا الآن). المهم، وبهذا نستكمل فكرة في مقالة سبقت، أن الانتقال من أيديولوجيا قوموية، شمولية، إلى أيديولوجيا دينية، شمولية، كالوهابية، لا يحتاج إلى أكثر من نزع القشرة الخارجية المُعلمنة عن الأولى، للتدليل على، وإعلان، عودة الابن الضال إلى أبيه، بطريقة مجازية، وتمثيلية. عودةٌ تستدعي الكثير من الدموع.