تحل هذه الأيام الذكرى الثامنة والستون للنكبة الفلسطينية التي نتجت بفعل ظروف وعوامل إقليمية ودولية أسهمت في ولادة كيان صهيوني غاصب، بدعم سخي من الغرب الذي وضعه في خاصرة الأمة العربية. كعادته سيخرج الشعب الفلسطيني بشكل طوعي أو منظم، للاحتفال بهذه الذكرى المؤلمة لكافة الفلسطينيين في الداخل والشتات، وحتى يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن الأجيال لن تنسى قضيتها المركزية فلسطين، مهما تداولتها الأزمان. غير أن النكبة تأتي في ظروف راهنة بالغة التعقيد، فهي ظروف سيئة على الفلسطينيين وعلى العرب عموماً، لكنها ليست ظروفاً سيئة على الدولة العبرية التي تتجلى باستظهار قوتها وبطشها، وتعمل بقضها وقضيضها من أجل تكريس الاستيطان وضرب مقومات الصمود الفلسطيني. النكبة هذا العام وكما هو حالها منذ الانقسام الفلسطيني منتصف حزيران 2007، تائهة جداً في ظل مخاضات مؤلمة تحل بالبيت الفلسطيني الداخلي، هذا البيت الذي يشهد انقساماً خطيراً من حيث السياسة والاقتصاد والمجتمع والأيديولوجيا وغير ذلك. لقد سعى الاحتلال طوال سنوات الصراع إلى اللعب على حبل التناقضات الداخلية الفلسطينية، فحين يهب الفلسطينيون للحديث عن الحوار الوطني والوحدة، نجد ماكينة السياسة الإسرائيلية تُفرخ مواقف عدائية تستهدف الوحدة الوطنية وتعمل قولاً وفعلاً من أجل تأبيد الانقسام. أكثر من ذلك، تستهدف إسرائيل في الأساس ربط الناس وشغلهم بعناوين فرعية مثل قصة المعابر والكهرباء وأزمة المياه والغاز، ذلك أن هذه العناوين الفرعية من شأنها إبقاء هؤلاء عند مستوى التفكير اليومي بعيداً عن القضايا المركزية مثل القدس والأسرى والاستيطان. نعم تمر الذكرى الثامنة والستون للنكبة، غير أن إسرائيل اليوم ليست نفسها بالأمس، فهي تتوسع بشكل سريع وتقضم أراضي الضفة الغربية حتى تمنع قيام دولة فلسطينية مستقلة. القصد من ذلك أن المستوى السياسي الإسرائيلي الذي تحدث مؤخراً عن السعي إلى ضم الضفة الغربية لإسرائيل، يعمل على حصر الفلسطينيين في رقع جغرافية وكانتونات، مقابل توسيع المستوطنات الإسرائيلية. هذه السياسة تستهدف نسف الدولة الفلسطينية من الجذور، وحتى لو فكّر الفلسطينيون الاعتراف بيهودية الدولة، فإن إسرائيل ماضية في فرض مخططات من شأنها أن تصفي القضية الفلسطينية إن عاجلاً أم آجلاً. في مقابل ذلك، ماذا فعل الفلسطينيون؟ هذا هو مربط الفرس، إذ إن الاحتفال بالنكبة في هذا الوضع الحالي يقدم إجابات على الحال الذي وصل إليه الفلسطينيون، ذلك أن الانقسام حاضر في عناوين كثيرة إلى درجة أن الفلسطينيين يمرون على هذه المناسبة بالتمني والتطلعات. حتى طبيعة الاحتفال ليست واحدة ولا تأخذ البعد الجمعي، وتقدم دليلاً على مدى تراجع القضية الفلسطينية، ليس على المستوى الداخلي فحسب، بل أيضاً على المستوى العربي والإقليمي الذي يعيش في جملة من التناقضات الصارخة التي جعلت من القضية الفلسطينية فرعاً بعدما كانت مركزاً وحدثاً مهماً. ما يحزن في هذا المقام هو أن بعض الأصوات الغربية من مؤسسات ومجتمع مدني، تنشط وتتسابق أكثر من العربية في مقاطعة منتجات المستوطنات الإسرائيلية، وبعض منها قطع أشواطاً كبرى في مقاطعة الجامعات العبرية والدعوة إلى محاسبة إسرائيل على ما ترتكبه من جرائم يومية بحق الشعب الفلسطيني. غير أن هذا الفعل على تواضعه، يستحق الإشادة بالرغم من التأثيرين الإسرائيلي والأميركي على بعض الدول الغربية لجهة منع مؤسسات المقاطعة من فضح الاحتلال الإسرائيلي، أما مؤسسات المجتمع المدني العربي فهي في وضع يرثى له، خصوصاً وأن تركيزها بحكم المنطق موجه إلى أوضاع مجتمعاتها ونظمها السياسية. لنا أن نلاحظ أن الانقسام الفلسطيني يتوسع ويبلغ مراحل خطيرة يوماً بعد الآخر وعاماً بعد العام، في ظل تغير الأولويات الدولية التي وضعت القضية الفلسطينية في أسفل اهتماماتها، مقدمةً العديد من الملفات من بينها الملف السوري والعراقي وموضوع اللاجئين في العالم والتغير المناخي والحرب الباردة بين الولايات المتحدة الأميركية وروسيا... إلخ. إذاً وفي المحصلة يجوز القول إننا أمام نكبات كثيرة، من بينها نكبتنا الفلسطينية هذه التي نحييها عاماً بعد عام، لكن دون أي تغير مع الأسف الشديد في خارطة الصراع لصالح القضية الفلسطينية، ومع تواصل الانقسام الفلسطيني بلغات شديدة وصعبة. وهذا ينبغي أن يدفعنا في حقيقة الأمر إلى إعادة النظر في خطاباتنا وفي انقسامنا الذي أثّر على مشروعنا الوطني الفلسطيني وعلى النكبة وأثّر أيضاً في شخوصنا، وهناك شواهد كثيرة في قطاع غزة والضفة الغربية تلعن الانقسام وتضع المسؤول الفلسطيني والفصائل في مستوى الانتقاد اللاذع. إذا لم نحسن إدارة بيتنا الفلسطيني الداخلي والعودة عن هذا الانقسام، فلا شك أننا سنعيد توليد عجلة النكبة لكن بطرق مختلفة، لأن جيل الشباب وهم المخزون الاستراتيجي الديموغرافي وعصب القضية الفلسطينية، هؤلاء ينبغي رعايتهم وتخفيف الأعباء عن كاهلهم. ولا نستبعد في هذا المقام أن تتبدل الأولويات بالنسبة للفلسطينيين لجهة الدعوة الأولى لفض الاشتباك الداخلي وإعادة اللحمة الوطنية، خصوصاً وأنها صمام الأمان ورهن بنضج القضية الفلسطينية وإبقائها عند حالة الحياة الطبيعية. سامح الله القيادة الفلسطينية والفصائل على طريقتهم في إدارة النزاع الداخلي، واستنزافه لمقومات صمودنا ضد الاحتلال الإسرائيلي، كون المعركة معه ليست لأيام أو سنوات، إنما هي معركة وجودية تتطلب شحذ الهمم والتشمير عن السواعد وإعادة التفكير في استراتيجية إنقاذ وطنية لتدارك هذا الوضع المأزوم والمهزوم.
حرب غزة بين "نكبة ديختر" ووقود المشافي..وسط مناشدات محزنة!
13 نوفمبر 2023