في حوار نشرته جريدة "لوموند" الفرنسية قبل أيام، أعلن راشد الغنوشي مؤسس حركة النهضة الإسلامية التونسية أن حركته "ستخرج من الإسلام السياسي، وستتحول إلى حزب مدني، يفصل الدعوي عن السياسي". وحسب مراقبين، من شبه المؤكد أن تتبنى الحركة تصريحات الغنوشي، وأن تعيد انتخابه مرة ثانية رئيساً للحركة في مؤتمرها العاشر، الذي يُعقد في هذه الآونة. وفي لقائه أكد الغنوشي أن "حركة النهضة حزب سياسي، ديمقراطي مدني، له مرجعية قيم حضارية مُسْلمة وحداثية". وأضاف: "نخرج من الإسلام السياسي لندخل في الديمقراطية المُسْلمة. نحن مسلمون ديمقراطيون، ولا نعرّف أنفسنا بأننا جزء من الإسلام السياسي. ونتجه للتحول نحو حزب يختص في الأنشطة السياسية، بحيث يكون النشاط الديني مستقلاً تماماً عن النشاط السياسي". مضيفاً: "هذا أمر جيد للسياسيين؛ لأنهم لن يكونوا مستقبلاً متهمين بتوظيف الدين لغايات سياسية. وهو جيد أيضاً للدين حتى لا يكون رهين السياسة وموظفاً من قبل السياسيين". وقال أيضا: إن مفهوم الإسلام السياسي شوهته القاعدة و"داعش". وفي رسالة وجهها للإخوان، قال: "طريقكم خاطئ وجلَبَ الويلات للمنطقة". ومن المتوقع أن تثير هذه التصريحات ضجة كبيرة، ليس في الأوساط الإسلامية وحسب؛ بل وحتى في أوساط العلمانيين، فقد نُشرت عشرات المقالات التي تناولت الموضوع، ما بين مؤيد ومشكك ومعارض... بعض الأحزاب الإسلامية استهجنت الخطوة، ورأت فيها نكوصاً عن الدين، بل واعتبرها البعض ردة نحو العلمانية، وارتماء في أحضان أنظمة الكفر... فيما شكك بعض العلمانيين، خاصة في تونس والجزائر (حدة حزام مثلا)، في تصريحات الغنوشي المتعلقة بالتحول إلى حزب مدني، مذكرةً بأن حركة النهضة جزء من "جماعة الإخوان المسلمين"، وأنه ليس بوسعها نزع ثوبها الإسلامي الإخواني دفعة واحدة.. ما يعني أن الغنوشي صار كالمنبت؛ لا أرض قطع، ولا ظهر أبقى.. فلا الإسلاميين وافقوه على خطوته، ولا العلمانيين قبلوا به. وربما يحتاج الغنوشي، وسنحتاج معه إلى وقت طويل، حتى يُثبت هو مصداقيته وجديته في هذا التحول، وحتى نفهم نحن تبعاته وتداعياته ومعانيه الفلسفية البعيدة.. فمثل هذه التصريحات تستدعي أسئلة في غاية الأهمية؛ مثلاً: هل أدرك الغنوشي متأخراً (وهو في منتصف السبعينيات من عمره) أن نهج الإسلام السياسي لم يكن صحيحاً، وأن الأصح هو النهج الحداثي المدني (لحد الآن لم يقل العلماني)؟! هل اقتنع بضرورة فصل الديني عن السياسي؟ هل خطوته هذه طلاق سياسي أم أيديولوجي مع الإخوان؟! هل ستكون سابقة ستتبعها حركات إسلامية أخرى باتجاه التوطين، والانخراط في النظام العالمي والحضارة الإنسانية بمضامينها المدنية والحداثية؟! هل هي استفاقة متأخرة، أم فقط بحث عن تموقع وتبرئة ذمة من الأزمة الأمنية والاقتصادية التي تعيشها تونس؟ هل كشف الربيع العربي عن عورة الأحزاب الدينية، وجهلها بأساليب الحكم، وافتقارها للمشروع الوطني الذي من شأنه تقديم الحلول المنتظرة من الشعوب العربية؟ بشكل عام، يمكن القول: إن لحركات الإسلام السياسي موقفين متناقضين من قيم الديمقراطية والمدنية؛ الأول يرفض نظم الديمقراطية والعلمانية والدولة المدنية وكل ما ينشأ عنها من انتخابات ودساتير رفضاً مبدئياً قاطعاً، ويعتبرها بضاعة غربية كافرة، لا يجوز التعامل بها، وهذا الموقف يتبناه حزب التحرير، وتقريباً جميع الحركات "الجهادية" المنبثقة عن القاعدة، خاصة جبهة النصرة و"داعش" وعشرات التنظيمات التي ظهرت مؤخراً في سورية والعراق. الموقف الثاني يقبل بالديمقراطية والدولة المدنية وما ينشأ عنهما من أنظمة وأحكام. ويتبناه بشكل أساس جماعة الإخوان المسلمين، والأحزاب المنبثقة عنها. وقد سبق للجماعة أن شاركت في الانتخابات البرلمانية (والرئاسية) في عديد من الدول، بدءاً من حسن البنا نفسه، حتى أن الحركة الإسلامية داخل الخط الأخضر (جناح الشيخ إبراهيم صرصور) شاركت في انتخابات الكنيست ذاتها.. كما شاركت "حماس" في انتخابات السلطة تحت مظلة أوسلو.. البعض يتهم الحركات الإسلامية بالمراوغة وعدم الصدق بشأن الديمقراطية والانتخابات، وأنها تستخدمها لمرة واحدة فقط، وبعد وصولها للسلطة تمتنع عنها كلياً، وتصبح في نظرها من الموبقات.. أي أن موافقتها عليها هي فقط للاستهلاك الإعلامي، ولتجنب ردود الفعل الدولية، أو لتسويق نفسها في منظومة الشرعية الدولية، ولمحاولة الاندماج في النظام العالمي... بيد أن حركة النهضة أثبتت العكس، فقد تخلت عن السلطة طواعية في تونس، بعد أن استلمتها بالانتخابات، وكانت قد أقامت شراكة في الحكم مع بقية الأحزاب الوطنية التونسية، ثم تعاملت مع نتائج الانتخابات الأخيرة بروح ديمقراطية حقيقية.. وربما كان موقفها العقلاني والمرن والمسؤول هو الذي جنَّب تونس ويلات الدمار والحرب الأهلية، كما حدث في ليبيا مثلاً، وبقية بلدان الربيع العربي التي افتتحت تونس ثوراتها قبل أكثر من خمس سنوات. محللون تونسيون (خولة العشي مثلاً) رأوا أن توجهات الغنوشي كانت لغايات سياسية وانتخابية ودعائية، دافعها تأكيد تخلّص الحزب من عُقدة شبهة التوجه الديني المنغلق، وإظهار مسلك الاعتدال والانفتاح والتسامح، بهدف طمأنة الرأي العام، المحلي والدولي، وأنها أتت تحت ضغط موجة الاحتجاجات الشعبية. البعض ربط تحولات الغنوشي بما حدث في مصر، وخشيته من نقل موجة المظاهرات لتونس، وتكرار تدخل الجيش لجانب الحراك الشعبي، فتخلى عن الحكم لصالح حكومة التكنوقراط، متجنباً بذلك تصاعد موجة الاحتجاجات الشعبية وإمكانية تحولها إلى انقلاب دموي، ثم تخلى عن مطلبه باعتماد الشريعة الإسلامية مصدراً أساسياً للدستور، وفي محاولة منه للظهور بمظهر راعي الحقوق والحريات؛ دعا لعدم تجريم المثلية الجنسية في الأماكن الخاصة. لكن تحولات الغنوشي لم تقتصر عند هذا الحد، فقد صوَّت نواب النهضة لمنع بند في الدستور ينص على تجريم التطبيع مع إسرائيل. أنصار الغنوشي يقولون عنه: إنه يتحدث كزعيم سياسي وليس كرجل دين، وأنه يقدم خطاباً ذكياً يوازن بين الحكم الديني والحكم السياسي مع احترام للقانون والدستور، وهذا الخطاب العقلاني البراغماتي هو ما تحتاجه تونس في هذه الفترة التي تمر فيها المنطقة بفوضى تقودها الجماعات المتشددة باسم الدين. على أي حال، ثمة فرق كبير بين "مهدي عاكف"، الذي قال: "طز في مصر"، وبين الغنوشي الذي قال: إن تونسيته هي الأهم، وإنه لا يريد لتونس أن تصبح مثل ليبيا.