ما الذي يدعو رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين لزيارة العاصمة الروسية أربع مرات في عام واحد؟
رفض نتنياهو مؤخرًا زيارة واشنطن ولقاء الرئيس الأميركي باراك أوباما، وفضل التواصل مع فلاديمير بوتين، الأمر الذي يؤكد تغير نظرة تل أبيب لحالة التوازن الاستراتيجي في العلاقات بين القوى الجيوبوليتيكية المؤثرة حول العالم.
هل أدرك نتنياهو أن روسيا أضحت رقمًا صعبًا عالميًا من جديد؟
الشاهد أنه ليس نتنياهو فقط الذي أبدى اهتمامًا بزيارة موسكو وإقامة علاقات متميزة معها من جديد، بل غالبية زعماء الشرق الأوسط، وهو الأمر الذي رصده في مايو (أيار) المنصرم دينيس روس الرجل الأول لعملية السلام في الشرق الأوسط أثناء ولاية إدارة كل من جورج بوش الأب وبيل كلينتون، والذي اعتبر أن التصورات أكثر أهمية من مجرد القوة، سيما أن الروس الآن ينظر إليهم على أنهم مستعدون لاستخدام القوة للتأثير على توازن القوى في المنطقة العربية في حين تفضل واشنطن - أوباما القيادة من الخلف والعمل من وراء الكواليس.
من واشنطن إلى موسكو، هل يلعب نتنياهو على المتناقضات؟
بالقطع المشهد يتجاوز ذلك بكثير، فنتنياهو لديه مصالح استراتيجية طارئة تتصل بحضور إسرائيل وجوديًا وحدوديًا مع موسكو بأكثر كثيرًا من العمل على إثارة حنق باراك أوباما.
يمضي نتنياهو إلى الروس ليحتفل معهم بمرور ربع قرن على عودة العلاقات الدبلوماسية الإسرائيلية - الروسية، التي توقفت عام 1967 بعد العدوان الإسرائيلي على الأراضي العربية، وهي فرصة جيدة بالنسبة لإسرائيل لتأكيد خطوطها الحمراء، والتي تملك روسيا قدرًا واضحًا من النفوذ والتداخل على الساحة الدولية الشرق أوسطية بشأنها، إنها خطوط الدفاع عن النفس من منظور إسرائيلي، وفي المقدمة منها العمل قريبًا من الروس لمنع حصول إيران على نحو خاص على أسلحة متقدمة وبخاصة الصواريخ بعيدة المدى من عينة S300 أو S400 وما شابهها، وفي الوقت ذاته تتطلع حكومة نتنياهو لدور روسي فاعل في قطع الطريق على تحويل أسلحة متقدمة من إيران إلى سوريا ثم إلى حزب الله في جنوب لبنان، ناهيك بمنع تأسيس قاعدة عمليات عسكرية في سوريا ضد الوجود الإسرائيلي في هضبة الجولان. هل من خلفية يهودية في الداخل الروسي تدعم نتنياهو في رحلته؟
بلا شك لا يزال ليهود روسيا دور على صعيد الحياة العامة، سياسيًا أو دينيًا، ولهذا حرص نتنياهو على لقاء عدد من القادة اليهود المحليين، من ضمنهم الحاخام الروسي الكبير بيرئيل لازار والحاخام الكبير في موسكو بينحاس غولد شميث، ورئيس المؤتمر اليهودي الروسي يوري كنير، وجميعهم يلعبون دورًا مهمًا في تثبيت الحضور اليهودي الروسي في الحال والاستقبال.
يمكننا أن نوجه لنتنياهو اتهامات كثيرة، فهو الرجل المراوغ، والصخرة التي عليها يتم تسويف أحاديث السلام أو إقامة الدولة الفلسطينية الموحدة، والكثير من المثالب الأخلاقية، غير أن هذا لا يمنعنا من أن نشير وبموضوعية إلى أنهم هناك في تل أبيب يعرفون كيف يقرأون الأزمنة جيدًا، ويدركون عبر نظرة استشرافية، تغير العالم، ولهذا لا يكتفون بصون العلاقات مع الأصدقاء، مثل واشنطن، رغم الخلافات السطحية الظاهرة مع إدارة باراك أوباما، والتي تجهز لأكبر صفقة مساعدات عسكرية في تاريخ البلدين قبل رحيل أوباما، بل يسعون إلى تشكيل شبكة جديدة من العلاقات مع القوى الدولية الصاعدة حول العالم، وقد شهدنا مؤخرًا تحسنًا دراماتيكيًا في العلاقة مع الصين والهند، وتحالفًا استراتيجيًا مع دول شرق البحر المتوسط، وعلى رأسها قبرص واليونان، عطفًا على المحاولات المستمرة والمستقرة لإيجاد موطئ قدم في الداخل الأفريقي، وما تفعله إسرائيل في إثيوبيا، وزيارة نتنياهو القادمة لها، خير دليل على صدقية هذا الحديث. يسعى نتنياهو في تلك الزيارة للعمل سويًا وبشكل خاص على الملف السوري وخوفًا من تشابك عسكري إسرائيلي - روسي في سماوات سوريا، وهناك أحاديث عن هجوم جوي إسرائيلي قبل أيام على حمص وتدمير مخازن سلاح تخص حزب الله، وطالما بات المجتمع الدولي غير قادر على إنهاء الأزمة السورية، فإن تل أبيب تعوّل على العمل قريبًا من موسكو في هذا الشأن، فدون تفاهمات ثنائية، قد يجد الطرفان نفسيهما أمام انتشار «داعش» وأخواتها.
هل لبوتين نفسه مصلحة في تعظيم علاقته مع تل أبيب؟
لا شيء مجانًا في عالم السياسة وإن كانت اليد العليا لموسكو، ومع ذلك فإن لدى إسرائيل حتى الساعة علاقات جيدة جدًا مع غالبية أعضاء الكونغرس الأميركي بمجلسيه، وهؤلاء كثيرًا ما وقعوا عقوبات على روسيا، وعليه يقدم نتنياهو نفسه بوصفه «حامل أوراق الوساطة وأختام الكونغرس»، وبعيدًا عن البيت الأبيض، عطفًا على التعاون العسكري مع إسرائيل والعمل على أسلحة متطورة معًا.
يدرك نتنياهو أن موسكو عائدة وشمسها ستسطع بقوة شرق أوسطيًا، كما يؤمن بأن ترسانة أسلحتها باتت مطلبًا مرغوبًا من دول المنطقة، وأن الجميع يتطلع للاستحواذ على صواريخ «إسكندر»، الروسية الفتاكة، ولإسرائيل مصلحة استراتيجية في قطع الطريق على العرب في هذا المجال، وهذا في حد ذاته يوفر «مليارات الشواقل على ميزانية الدفاع الإسرائيلية، والتي ستوظف لإنتاج أسلحة مضادة».
الخلاصة.. فصل جديد من فصول التوازن الدولي، تكتب شرق أوسطيًا، موسكو في القلب منها، بعد الانزياحات الاختيارية لواشنطن من المشهد ولحين إشعار أميركي آخر.
عن الشرق الأوسط