إحدى زوايا النظر المثيرة إلى الشأن الفلسطيني هي تلك التي تتعامل معه على أنه أُسْرة. فماذا حلّ بهذه الأسرة في السنوات الأخيرة؟ سؤال يقودنا إلى نتائج مأساوية.
فربّ الأسرة الفلسطينية بعد النكبة وبعد الانطلاقة أواسط الستينيات، ياسر عرفات، رحل، وهذا معناه أن الطوطم الذي دارت حوله الأسرة وتوحّدت لم يعد موجوداً، وأن البدائل غير كافية لإنتاج الدبق - الولاء للأسرة والالتزام بمقتضياتها. بل كان موته بداية لتفككها وتداعيها كمنظومة عشنا على إيقاعها عقوداً. قامت المنظومة الفلسطينية كمشروع وجماعة، كباقي المنظومات العربية، على أساس أن هناك أباً رعوياً يحتوي بعباءته وأبوته الجميع. بل هو عمود الخيمة ومحورها وساندها وما يتبع ذلك من تمثيلات تكرّس مركزيته في التجربة الجماعية والفردية. وغياب عرفات - الأب، تبعه غياب البيت الفلسطيني الذي تصدع وصار بيتين/ أسرتين في أقل حساب، واحد بقيادة السلطة الوطنية (اقرأ فتح) في الضفة الغربية وواحد بقيادة حركة حماس في قطاع غزة. إلا أن هذا الانقسام في البيت لم يكن جغرافياً فحسب، بل تحول إلى انقسام عمودي طاول كل مواقع التواجد الفلسطيني. فكأننا في شأن مشروعين لا واحد (السيرورة ذاتها حصلت في الإقليم العربي مع بروز الإسلام السياسي كبديل للدولة ومشروعها).
نقول «انقسام»، وفي البال مشاهد عنف مروّعة رافقت عملية استيلاء «حماس» على غزة. نستذكر هنا أن عنفاً فلسطينياً - فلسطينياً سبق هذا المشهد، لكنه جاء في زمن كان فيه الأب موجوداً، وهو مصدر السلطة والأمر والنهي، وكانت الغالبية تُدين له وتسأل خاطره. وكان هو قادراً على رأب الصدع وترميم الأسرة والبيت كما حصل مرات قبلاً. وكان هذا الأب قادراً كل مرة وبأثمان باهظة على صد محاولات التدخل من الأشقاء العرب ومناوراتهم التي لم تتطابق ومصالح الأسرة ومشروع حياتها.
ليس هذا فحسب، فأشقاء الأسرة انصرفوا بالكامل إلى شؤونهم وأداروا ظهورهم لها ولاحتياجاتها وأصوات استغاثاتها. لم يحصل ذلك بفعل الثورات العربية فحسب، بل بفعل التفرّغ إلى مصالحهم وشؤونهم الداخلية والخارجية. بل إن تحولات الإقليم العربي زادت من الضغط على الأسرة الفلسطينية بخاصة في لبنان وسورية.
إن الاستعاضة بسلطة الأب في هذه الأسرة بسلطة «السلطة الفلسطينية» خففت من وقع الكارثة التي يُمثّلها رحيل الأب المؤسس والراعي. ومع هذا فهي لم تحلّ مكانه ولم تستطع منع التداعيات الأخرى لرحيله. وهذا ما سرّع خصخصة المشروع القومي الفلسطيني إذا صح التعبير، وصولاً إلى ظاهرة خروج الأفراد الفلسطينيين إلى حتوفهم وموتهم المعلن مسبقاً في كل مرة يحاولون فيها مواجهة أزمتهم الوجودية بمواجهة الاحتلال وحدهم عُزّلا من السلاح ما خلا السكاكين البسيطة. وهي مواجهة تنتهي في كل مرة تقريباً بموتهم المؤكّد من دون أن يكون لـ «بطولتهم» أي أثر يُذكر سوى الفاجعة الذاتية.
هؤلاء الأفراد إنما يبحثون عن «الكرامة» الضائعة للأسرة وعن موقعهم فيها بعدما ضاعت البوصلة المؤشرة. بل إن خلخلة بيت الأسرة وزعزعته أفقدتهم الأمل بأن تتحسن أحوالهم وتنتظم حياتهم على نحو ما.
حتى التنظيمات التي كانت تفخر بالعمليات من كل صنف ونوع نراها عاجزة عن فهم ما يحصل أو منحه شرعية. وهذا ما يؤكّد أن المقدمين على هذه العمليات الفردية أفراد تملكهم اليأس من انتصار الأُسرة لهم وفقدوا كل أمل في تحسن الأمور.
إن الانطلاق من فرضية وجود أسرة فلسطينية والسير معها من نقطة رحيل عرفات، سيقودنا إلى الاستنتاج بأن هذه الأسرة تداعت وتداعيها طاول كل مواقعها. فنحن حيال «خراب» البيت الفلسطيني كما عرفناه مجازاً وحقيقة، خراب المكان وخراب السكان الذين في البيت. وهي حالة خطيرة قد تؤول إلى سيناريوات عدة، منها استمرار الخراب في الأمد المنظور واستمرار هروب السكان من البيت وانشقاق المزيد من أفراد الأسرة عنها بُغية الانتماء إلى أُسر أخرى كالأسرة الإسلامية، وهو حال حركات كحماس والجهاد والإخوان المسلمين في الأردن، أو حال الذين قرروا الاستقرار حيث هم في دول الاغتراب واللجوء. هذا، إلى حين يُقرر جيل الأولاد والأحفاد تكوينها من جديد من خلال «استحداث» أب/طوطم جديد، أو من خلال بنائها بصيغة حديثة أكثر.
تشهد الساحة الفلسطينية جهوداً بالاتجاهين، فيما تعمل جهات خارجية على إدامة حالة الخراب. ولكل من هذا وذاك منطقه!
عن الحياة اللندنية