قطعت نتائج «اجتماع باريس» الشك باليقين، وأثبتت أن «المبادرة الفرنسية» قد ولدت ميتة. أما خيبة آمال المراهنين عليها فكانت كبيرة، حيث بددت أوهام كل الرهانات أن بوسع دولة أوروبية أساسية، أو حتى دول أوروبا مجتمعة، الخروج من عباءة السياسة الأمريكية تجاه الصراع العربي الصهيوني، وجوهره القضية الفلسطينية، خصوصاً. أن التعديلات التي تم الرهان على إدخالها على مرجعية التفاوض ورعايته وشروطه خرجت من أجندة اجتماع باريس، فلا مرجعية غير طاولة المفاوضات حُددت، ولا سقفاً زمنياً للتفاوض وُضع، ولا جدولاً زمنياً لإنهاء الاحتلال بُحث، ولا دعوة لوقف سياسة العدوان والتهويد الاستيطان تمت، ولا الترتيب لعقد مؤتمر دولي بات مضموناً، اللهم إلا إذا جاء منصة لاستئناف التفاوض المباشر غير المشروط لتحقيق ما يسمى ب«حل الدولتين»، أي لاستمرار الدوران في حلقته العبثية المفرغة والمُدمرة، ولكسب المزيد من الوقت لمواصلة سياسة مصادرة الأرض والاستيطان والتهويد والعدوان، كسياسة لا تترك متسعاً لإقامة دولة فلسطينية، ولو على «حدود 67»، ومع قبول فكرة «تبادل الأراضي».
لقد اشترت باريس بعض الوقت لأجل استمرار الوضع القائم في حالة الصراع الفلسطيني الصهيوني، لكنها ما زالت بحاجة إلى مزيد من الوقت للعمل على ابتزاز المفاوض الفلسطيني. فالكيان الصهيوني لم يرفض المبادرة الفرنسية لأنه يرى فيها انحيازاً للحق الفلسطيني، بل، لأنه يريد فرض تنازلات سياسية جديدة لا تتعلق ب«الدولة الفلسطينية»، فقط، بل تتعلق، أساساً، بجوهر القضية الفلسطينية: حق العودة الذي تم العمل عليه، وبُذلت جهود كبيرة، لتحويله من حق غير قابل للتصرف إلى موضوع تفاوضي قابل للمقايضة، بدءاً من النص المعروف في قرار 242 حول «حل عادل لمشكلة اللاجئين»، مروراً بترحيل التفاوض على هذا الحق في اتفاق أوسلو إلى «قضايا الوضع النهائي»، وهو ما فجر مفاوضات كامب ديفيد المفصلية في يوليو/تموز 2000، عرجاً على «مبادرة السلام العربية»، 2002، التي حولت هذا الحق إلى مجرد مشكلة يمكن إيجاد «الحل العادل والمتفق عليه»، لها، وصولاً إلى اجتماع باريس الذي ركز على الدولة وتجاهل هذا الحق، ما يعني أنه لم يفعل سوى أنه حاول إعادة قطار التفاوض المباشر العقيم إلى سكة غير معروفة النهاية.
هذا يعني أن اجتماع باريس ليس إلا حلقة من حلقات إعادة الترتيبات الإقليمية في المنطقة، بحيث يتم لجم أي انفلاتات تؤثر على ما يجري في الإقليم من فوضى من جهة، ويضمن تنازلات فلسطينية جديدة دون أي مقابل سياسي أو غيره من جهة أخرى، ويكون الرابح فيها الكيان الصهيوني، مع مثيري الفوضى الهدامة في الوطن العربي. لذلك لم يكن غريباً أن تتدخل واشنطن في اللحظة المناسبة كي تفرض أجندتها على اجتماع باريس، وتفرغه من مضمونه، وتعيد الدور الفرنسي إلى حجمه الطبيعي كتابع لها في رعاية المفاوضات مع الاحتفاظ بالدور التمويلي للاتحاد الأوروبي لا أكثر. هذا يعني أن واشنطن ليست في وارد التخلي عن احتكارها لملف القضية الفلسطينية، رغم كل الهذر السائد عن إدارة ظهرها للشرق الأوسط متجهة نحو شرقي آسيا.
إن ما جرى في اجتماع باريس إن هو إلا تمهيد لتفعيل محاولات تعديل «مبادرة السلام العربية»، خصوصاً بندها المتعلق بحق العودة الذي يُراد إخراجه من كونه محوراً للتفاوض إلى كونه بين متفرقات الأجندة التي تطرح كقضايا ترتيبية إجرائية لا أكثر، أي إضاعة هذا الحق كفرق عملة عبر إثارة الجدل حوله على هامش المفاوضات. هنا يجب التنبه إلى أن محاولات فرنسا ليست مقطوعة عن المحاولات التي أجراها كيري سابقاً. وهي المحاولات التي فشلت ليس بسبب التعنت «الإسرائيلي»، فقط، بل، أيضاً، بسبب العقبة الرئيسية في وجهها، أي الوعي الشعبي الفلسطيني المتجذر بحق العودة، سواء بين اللاجئين في وطنهم، أو في الشتات.
المبادرة الفرنسية لم تأت خارج حسابات «الغرب» للمصلحة «الإسرائيلية»، وهي المتركزة، أساساً، على محاولة انتزاع الاعتراف ب«إسرائيل» «دولة لليهود»، في لحظة تشهد سيولة سياسية عربية، وفوضى عارمة تعم الوطن العربي، وتنذر، بديناميتها التفكيكية، بإعادة تجزئة المجزأ ب «سايكس بيكو» على أسس «هوياتية» ما قبل قومية، أي طائفية ومذهبية وإثنية وجهوية....الخ
هنا تتبدى الثمار المرة لتحولات تعامل قيادة منظمة التحرير مع مضمون الدولة الفلسطينية المبتغاة، من محطة، (1964-1974)، بشعارها «دولة ديمقراطية علمانية على أنقاض «إسرائيل»، إلى محطة، (1974- 1988)، بشعارها إقامة سلطة وطنية فلسطينية على أي أرض فلسطينية يتم تحريرها أو ينسحب منها الاحتلال، إلى محطة أوسلو، (1993 وحتى الآن)، بشعارها: «إقامة سلطة حكم ذاتي»، كخطوة أولى باتجاه، إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على الأراضي المحتلة عام 1967، مع تبادل للأراضي، إلى جانب دولة «إسرائيل».
عن الخليج الاماراتية