الإرهاب بين الدين والسياسة

thumbgen (5)
حجم الخط
 

إن العمل الإرهابي الذي وقع - مؤخراً - في فلوريدا، وراح ضحيته قرابة مئة من المدنيين بين قتيل وجريح، أعاد الحديث من جديد عن موضوع "الإرهاب الإسلامي"، وما يترتب عليه من زيادة المعاناة لجالياتنا الإسلامية والعربية جرَّاء ظاهرة "الإسلاموفوبيا" في الدول الغربية.

باختصار؛ هذا العمل الإرهابي مدان بكل اللغات السياسية والأخلاقية، وهو لا يمثلني كعربي مسلم، ولا ينتمي للقيم الدينية والإنسانية التي أنتسب إليها. وهو لا يتجاوز في فهمي له عن كونه عمل فردي لشخص مأزوم في قيمه وانتمائه، حتى وإن صلى وصام وحج البيت الحرام.

الإرهاب: نظرة تاريخية

منذ أحداث 11سبتمبر 2001 تعاظم الحديث عن الإرهاب، وأصبح مصطلح "الحرب على الإرهاب" في وسائل الإعلام الغربية وعلى ألسنة السياسيين هو سمة العصر.. وبالرغم من أن تداول مصطلح "الإرهاب الإسلامي" لاقى احتجاجاً في العالمين العربي والإسلامي وبين جالياتنا المسلمة في الغرب، بدعوى أن "الإرهاب لا دين له"، إلا أن المفكرين الغربيين من أصحاب الأجندات الخاصة، وكذلك بعض السياسيين في أمريكا وأروبا ما زالوا يعتمدون استخدام هذا المصطلح، وهو ما يستدعي رفضاً إسلامياً؛ لأن الغرب لا يقبل سياسياً أو ثقافياً التعاطي مع مصطلح "الإرهاب المسيحي أو اليهودي"، ولا يقبله من الآخرين، مما يجعل المسلمين ينظرون إلى ذلك من باب النفاق وسياسة الكيل بمكيالين.

الإرهاب اليوم يضرب في كل اتجاه، ولا يستثني أحداً من أصحاب الديانات الثلاث؛ الإسلامية والمسيحية واليهودية. وإذا أمعنَّا النظر في الدواعي والأسباب التي تقف خلف هذا الإرهاب الأعمى، فإننا نجد بأن هناك ما يغذي هذه الحالة من الغلوِّ والتطرف، والمسئول عنها - للأسف – هو جهات إسلامية وأخرى غربية تدعي الديمقراطية وحماية الحقوق المدنية.. نعم؛ هناك في منطقتنا العربية غلوٌّ لدى بعض التيارات الإسلامية، كما أن هناك لدى البعض الإسلامي ثقافة دينية متطرفة تطرح لغة العداء والكراهية، وتغذي رغبات الانتقام بدل التعايش والرحمة والتسامح تجاه الآخر، وترى في الغرب شراً مستطيراً لا لقاء معه ولا بقاء، وتعده مسئولاً عن كل ما يجري في بلاد العرب والمسلمين من كوارث ومجازر ونكبات، وتكريس للأنظمة الطاغية المستبدة، وتغييب للديمقراطية والحريات، والتعدي على الحقوق الإنسانية للأفراد والجماعات، وأيضاً بالتغطية على ما تقوم به إسرائيل من جرائم وانتهاكات من خلال احتلالها وعدوانها المستمر على الفلسطينيين، والتي تعتبر قضيتهم هي القضية المركزية، والهمُّ الأول للأمة الإسلامية، والتي من خلالها تتشكل رؤية العرب والمسلمين الدينية والسياسية ونظرتهم للمجتمع الدولي والعالم الغربي.

إن الوصول إلى حالة من الإجماع الأممي لمحاربة الإرهاب والقضاء عليه إلى غير رجعة، توجب على الغرب أن ينهي ملف الاحتلال الإسرائيلي، ومساعدة الفلسطينيين في إقامة دولتهم الحرة والمستقلة.. والثانية؛ هي دعم مسار التحول الديمقراطي في المنطقة، وإشاعة أجواء التعايش والتسامح الديني بين الشعوب والأمم، واحترام الأديان والمقدسات وحرمة الإساءة للرموز الدينية كالأنبياء والرسل.

إن الاستخدام الخاطئ لمصطلح الإرهاب، واطلاقه على تيارات إسلامية معروفة بالوسطية والاعتدال وتنبذ العنف كالإخوان المسلمين، هو ما يجعل هذا المصطلح باهتاً ويفقد قيمته، ويمنعنا كإسلاميين من الإيمان بجدواه.

إن القضاء على ظاهرة الإرهاب يتطلب أن يكون الإسلاميون هم رأس الحربة في محاربة الظاهرة فكرياً، وليس توجيه الاتهام لهم. إن البداية الصحيحة للتحرك هي في تولي التيار الإسلامي من أهل الوسطية والاعتدال توجيه البوصلة عبر توعية جيل الشباب بخطورة هذا الفكر المنحرف الموسوم بالغلوِّ والتطرف على رسالة الإسلام، التي جاءت بالرحمة للعالمين، وتطالبنا بدعوة الآخرين بالحكمة والموعظة الحسنة، وكذلك الانفتاح على أصحاب التيار السلفي الجهادي، والدخول معهم في حوارات فكرية لتصويب ما هم عليه من رؤية ليس عليها إجماع بين علماء الأمة.

هذا من جانبنا كمسلمين، أما ما هو مطلوب من الغرب والمجتمع الدولي فهو عدم الاصطفاف مع الأنظمة المستبدة في منطقة الشرق الأوسط، ونزع الشرعية عن كل من لا يحترم العملية الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة، ووضع حدٍّ للاحتلال الإسرائيلي في الضفة الغربية، ودعم حق الفلسطينيين في إقامة دولتهم وإنهاء مظلوميتهم، والبحث عن حلٍّ عادل لقضية اللاجئين كما جاء في القرار الأممي 194.

إن غياب المعالجة الفكرية لظاهرة التطرف والإرهاب، واستمرار السياسة الغربية في تجاهلها لحل مشاكل المنطقة، وتغطيتها على الفساد والدكتاتورية والاستبداد، فإنه سيؤدي إلى المزيد من المجازر ورغبات الانتقام التي لن تسلم منها حواضر الغرب أو الشرق.

إنني أشعر بالخجل عندما ينتهك البعض باسم الدين خصوصيتي الإسلامية، ويجعلني عرضة لكراهية الآخرين وبغضهم. إن أمريكا ومعها الكثير من الدول الغربية ترتكب حماقات كبرى وتغذي أحقاداً جامحة بأفعالها الإجرامية تجاه العرب والمسلمين، وهذه الحروب الطائفية التي أهلكت في بلادنا الحرث والنسل ليست بعيدة عن تخطيط الغرب ومكره، وأطماعه في ثروات منطقتنا، ورغباته في إذلال شعوب أمتنا.

الإرهاب ذلك الشيطان الرجيم يتناقض مع طبيعة ديننا التي جاءت بالرحمة للعالمين.. وعليه؛ فإن من يقتل المدنيين أو يستهدفهم بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية أو الأيدولوجية يحتاج إلى مراجعة منظومته القيمية والدينية التي حرَّمت قتل النفس بغير حق، واعتبرت هذا التعدي في سياقه الإنساني جريمة كبرى؛ (فكأنما قتل الناس جميعاً).

ختاماً.. على الغرب أن يراجع سياساته العدوانية تجاه دول وشعوب المنطقة، وعلى المتشددين من الغلاة والمتطرفين في بلادنا العربية والإسلامية ألا يكرسوا العداء والكراهية لدينهم الحنيف، وإدراك أن هذا الغرب بحواضره الأمريكية والأوروبية لم يعد وطناً للمسيحيين وحدهم، فإن هناك ملايين المسلمين تعيش بينهم، وتتنامي بمؤسساتها ومساجدها وأحيائها، بل وأصبحت جزءاً من منظوماتها السياسية والثقافية.

المطلوب - اليوم - ليس التفكير بعقلية "صراع الحضارات"، بل باعتماد سياسة الحوار و"تعايش الثقافات".