الغموض المدمر

thumbgen (9)
حجم الخط
 

الإسقاط مفهوم نفسى قدمه فرويد، ويعد أحد المفاهيم المحورية فى نظرية التحليل النفسي، وهو آلية دفاعية لاشعورية يلجأ إليها الفرد تخفيفاً من وطأة القلق الناتج عن مخاوف وشهوات وعدوانات غير مشروعة أو مقبولة من المجتمع أو من الأنا الأعلى، 
وفى حقيقة الأمر فإن مثيرات القلق تتخطى تلك الحدود لتشمل «الغموض» مصدر لإثارة القلق. ويتفاوت البشر فى درجة تحملهم للغموض بمعنى الاستمرار فى إدراك الموقف الغامض باعتباره غامضا عصيا على التفسير؛ ولا ينفى ذلك التفاوت حقيقة أن الموقف الغامض مثير لقلق لا سبيل للتخلص منه أو التخفيف من وطأته إلا بالتقاط أواصطناع تفسير يزيل القلق أو يخفف منه حتى وإن كان مجافيا للحقيقة، بل وحتى إن كان مثيرا للخوف؛ فالخوف من خطر معلوم يقل كثيرا عن خوف المجهول. 

ولقد اهتم علماء النفس بتقصى جذور تلك التفسيرات التى يصطنعها المرء للتخلص من قلق الغموض؛ ولن نثقل على القارئ بالإغراق فى تفصيلات تلك البحوث النفسية التى أدت إلى تصميم مقاييس نفسية لقياس القدرة على تحمل الغموض، وابتكار مجموعة من المقاييس الإسقاطية؛ لعل أشهرها اختبار بقع الحبر الذى صممه هيرمان رورشاخ الطبيب النفسى السويسرى بعد تجارب استغرقت عشرة أعوام، بدأها عام 1911 فى محاولة لاستخدام منبهات غير محددة المعنى، تسمح بانطلاق مكونات اللاشعور والتعبير عنها وانتهى إلى استخدام بقع الحبر. 

ولعله من اللافت أن ليوناردو دافينشى قد عبر عن فكرة إسقاط الذات على الصورة حين قال لتلاميذه: 

«إذا ما دققتم النظر فى بعض اللوحات الجدارية القديمة، أو فى بعض الرسوم على الأحجار، لأمكنكم أن تروا فيها اختراعات وتفسيرات شتى. إذ إن الذهن يستثار من خلال هذه الرسومات الناقصة وغير المكتملة بسبب تهدم قسم من الجدار أو بسبب العوامل الطبيعية التى محت قسما من هذه الرسوم. فغموض هذه الرسومات يدفع بالذهن إلى تفسيرها بطرق عدة وإلى اختراع حلول عديدة لإتمام نواقصها» 

و لسنا بصدد الإفاضة فى حديث متخصص حول فكرة الإسقاط و الاختبارات الإسقاطية. ما يعنينا هو إبراز حقيقة علمية مؤداها أن مواجهة البشر لمواقف غامضة تدفعهم إلى تفسيرها وفق أهوائهم و تصبح تلك التفسيرات بالنسبة لهم حقائق لا يرقى إليها الشك و تلعب دورها فى تحديد سلوكهم و توجهاتهم حيال ذلك الواقع الغامض. 

ثمة أنواع شتى من الغموض؛ فنحن حين نشاهد فيلما بوليسيا جيدا لأول مرة ينتابنا عادة شعور بالتوتر الممتع ترقبا للنهاية، وتتزايد متعتنا مع توالى إخفاقات توقعاتنا لتلك النهاية. وإلى جانب هذا النوع من «الغموض الممتع»، ثمة نوع آخر من «الغموض البناء» نشهده كثيرا فى الحروب حيث يتوقف إحكام الخطة على النجاح فى التعمية على موعد الهجوم وأهدافه ووجهته بحيث يبقى الطرف الآخر متوترا دون أن يتمكن من تبين ملامح ما يعد له و هو ما كان مصدر فخرنا فى حرب أكتوبر 1973، ومصدر مرارتنا فى هزيمة 1967، ويحدث ذلك النوع من «الغموض البناء» أيضا فى جولات المفاوضات حيث تتضمن خطة التفاوض التعمية على الحد الأدنى «الحقيقي» الذى يمكن القبول به وعلى القدرات «الواقعية» لتحمل فشل المفاوضات إلى آخره ولعل المفاوضين المصريين قد مارسوا ذلك بقدر كبير من المهارة لاستعادة سيناء بعد حرب أكتوبر 1973؛ و إلى جانب هذين النوعين من أنواع الغموض المثيرة للمتعة والفائدة؛ فثمة نوع «خبيث مدمر» من أنواع الغموض 

ولقد كتبت فى نوفمبر 2010، عندما كانت ثورة يناير تختمر فى الأعماق، محذرا من مغبة ما أطلقت عليه «الإدارة بالغموض»، حيث تحرص السلطة الوالدية أو السياسية أو الدينية،على فرض ستار من الغموض على كل شيء. 

وتتباين دوافع السلطة فى تبرير اختيار هذا النوع من الغموض؛ قد يكون اعتقادا منها ببساطة تفكير أتباعها وسذاجتهم ومن ثم عجزهم عن التصرف بالحكمة المطلوبة إذا ما عرفوا الحقائق، أو تمسكا بضرورة احتفاظها بالمرونة التى تكفل لها التعديل السريع لقراراتها دون التزام بتعليل مسبق لها يفقدها فعاليتها، أو حرصا منها على تجنب شفافية تكشف من الحقائق ما تراه السلطة محرجا لها جارحا لنزاهتها، أو ما إلى ذلك. 

إن قائد الجماعة أو رب الأسرة أو شيخ القبيلة الذى يتقمص دور «الراعى الشهيد» الذى يتحمل وحده معاناة التصدى لما يهدد الجماعة من مخاطر، محتفظا لنفسه بتفاصيل تلك المخاطر، مقتنعا بأنه الأوحد العارف بالأسباب والقادر على المواجهة، وأنه فى يوم ما - لم يحن بعد - سوف يسمح بفتح المغاليق ليكتشف الرعايا حجم ما تحمله من أجل أن يكفل لهم السعادة والهدوء، ويجنبهم الشقاء والمعاناة؛ وفى الحقيقة فإنه خلال تحمله لتلك المشاق يكون غافلا عن أنه يعرض نفسه لشبهة الاستمتاع بلذة التسلط والتحكم. 

إن الأمر لا يحتاج لتخصص علمى دقيق ليدرك المرء أن الموقف الغامض يثير فى البداية فضولا لكشف غموضه، فإذا ما أخفق ذلك السعي، أو تضاربت التفسيرات بشأنه؛ تحول الفضول إلى ضيق وتوتر وسعى محموم لكشف أهداف القائمين على خلق ذلك الغموض، وفى مثل هذا المناخ الغامض يصبح الباب مفتوحا على مصراعيه لأمرين متكاملين لا يقل أحدهما تدميرا عن الآخر: الشائعات والعنف. 
عن الاهرام