لماذا تصر فرنسا على مبادرتها؟

أشرف العجرمي
حجم الخط
خضعت المبادرة الفرنسية للكثير من النقاشات والتحليلات التي كان معظمها يشكك في قدرتها على النجاح وتحقيق الاختراق المنشود في العملية السياسية في الشرق الأوسط بسبب رفض إسرائيل لها، وبسبب كونها لا تتمتع بمزايا تمنحها القدرة على فرض التزام الأطراف المعنية بالمبادئ التي تقوم عليها وهذا يتعلق بإسرائيل على وجه الخصوص، بالرغم من أنها تقوم على مرجعيات دولية متفق عليها مثل المبادرة العربية للسلام وقرارات مجلس الأمن المتعلقة بالقضية الفلسطينية، وهي نفس المرجعيات التي ترفضها إسرائيل وتطالب بتعديلها حتى تتمكن من التعاطي معها. وبالذات مسألتي حدود عام 1967 بما في ذلك القدس الشرقية و اللاجئين الفلسطينيين. ومع ذلك نجد إصراراً فرنسياً على المضي قدماً بهذه المبادرة والسعي لدفعها وتطوير آليات لنجاحها، بعد الإجتماع الوزاري الذي عقد في باريس والذي اعتبر خطوة أولى موفقة ربما تكون الأسهل قياساً بما ينتظر المبادرة من صعوبات وعقبات مستقبلية.
 في اللقاء الذي ضم عددا من الأشخاص مع القنصل الفرنسي في القدس يوم الأثنين الماضي،الذي تخلله نقاش وحوار، تحدث الأخير بانفتاح كبير عن دوافع فرنسا وطريقة تفكيرها وعملها ونظرتها المستقبلية لدورها في الجهود السياسية لدفع عملية السلام في المنطقة. وأهم ما يستشف من حديث القنصل العام هو أن فرنسا تعتبر أن أمنها بات مرتبطاً بالقضية الفلسطينية، وعاد إلى تأكيد بطريقته ضمنا ما قلناه سابقاً وترفضه إسرائيل أو على الأقل ترفض الإعتراف به وهو أن المنظمات الإسلامية المتطرفة  في أوروبا تعتمد في تجنيد الشبان على خطاب القضية الفلسطينية أكثر من أي شيء آخر، وكل الأعمال الإرهابية التي تقوم بها ضد دول أوروبا تبررها بدعمها للاحتلال الاسرائيلي لفلسطين والقدس. ولا شك أن التفجيرات التي حصلت في باريس والعمليات الإرهابية في أكثر من مكان في أوروبا والتحقيقات التي جرت في أعقابها أظهرت ارتباط الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي بعمليات تجنيد المقاتلين في المنظمات الإرهابية على شاكلة «داعش». إذاً فرنسا هنا تدافع عن مصالحها وأمنها وكذلك أوروبا في سعيها لتسوية الصراع وليس محبة في الفلسطينيين أو كرهاً لإسرائيل. حتى لو فسرت الحكومة الإسرائيلية ذلك على هذا النحو.
  والنقطة الثانية المهمة في حديث القنصل هي أن المبادرة الفرنسية قائمة على خلق زخم دولي يوفر مناخاً وبيئة مناسبة للتفاوض بحيث يخرج عن صيغة المفاوضات الثنائية المحكومة بموازين القوى بين الطرفين والتي تميل حصراً لصالح إسرائيل ولا تسمح بالتقدم في أي موضوع. وتشعر فرنسا أن عامل الوقت حاسم في هذه العملية بالنظر لأن حكومة بنيامين نتياهو الحالية تسابق الزمن لقطع الطريق على حل الدولتين على أساس المرجعيات الدولية وخصوصاً حدود عام 1967، ولا ترى فرنسا أن حل الدولة الواحدة ممكن كبديل لمشروع التسوية السياسية المتفق عليه دولياً والذي تحاول إسرائيل تدميره.
 وفي هذا السياق شعرت فرنسا أن عقد المؤتمر الدولي بدون مشاركة الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي مفيد أكثر من صرف الطاقة والجهد على اقناع إسرائيل ودفعها للحضور، وعندما يتم النجاح في خلق آليات دولية وبيئة ملائمة وحاضنة عندها سيكون إدخال إسرائيل في العملية أكثر سهولة. والمبادرة الفرنسية مرنة كثيراً وتستطيع التكيف مع اية أفكار يمكن طرحها من اللاعبين الدوليين والأطراف المعنية. وهناك أهمية خاصة لما يمكن أن يطرحه المجتمع الدولي على طرفي الصراع. ويبدو أن فرنسا كانت تتوقع تشكيل حكومة وحدة إسرائيلية بضم (المعسكر الصهيوني) بزعامة اسحق هرتسوغ للحكومة مما يسهل دمج إسرائيل في العملية السياسية.
  والتطور المهم هو في اتباع آليات لتشكيل فرق ومجموعات تضم عدداً لا بأس به من الدول لتوفير أجواء الثقة وتعزيز فرص السلام والأمن، وترى فرنسا أن حماس المانيا للمشاركة في فرق العمل يحتل أهمية كبيرة في توسيع دور أوروبا في المبادرة التي يراد لها أن تكون دولية وليست فرنسية فقط ، حتى لو لعبت فيها فرنسا دوراً محورياً. ولا تزال بعض الدول التي شاركت في لقاء باريس تبدي تردداً في المشاركة الفاعلة.
         ولا يبدو أن فرنسا تخلت عن فكرة الإعتراف الأحادي بدولة فلسطين في حال فشل المؤتمر، فالحكومة الفرنسية تضع في جيبها ورقة اعتراف البرلمان ومجلس الشيوخ بدولة فلسطين ومطالبة الحكومة بذلك، وستلجأ لهذا الإعتراف في الوقت المناسب على أن يكون الاعتراف ذا مغزى وليس مجرد اعلان معنوي أو سياسي شكلي. وطالما أن فكرة المؤتمر قائمة ستمتنع فرنسا عن القيام بخطوات قد تستفز إسرائيل التي تريد فرنسا أن تغير رؤيتها نحو التسوية القائمة على حل الدولتين الذي لم يتبق أمامه وقت طويل. خصوصاً في ظل سياسة الإستيطان التي تتبعها الحكومة الإسرائيلية لفرض حقائق على الأرض تمنع إقامة دولة فلسطينية. وفي هذا الإطار يقول الفرنسيون لإسرائيل :لا تتوقعوا أن يأتي الفلسطينيون إلى المفاوضات بانفتاح وأنتم لا تقدمون لهم شيئاً في ملف الإستيطان تحديداً.
        الرسالة الفرنسية لإسرائيل واضحة. ولكن هناك رسالة لنا أيضاً تقول :لا تنتظروا أن يقدم لكم العالم حلاً وأنتم فقط متفرجون وتنتظرون ما قد يحصل عليكم أن تقوموا بواجبكم بالتحرك على كل المستويات لدفع العملية السياسية. وغني عن القول أن إنهاء الإنقسام المدمر سيكون مساهمة فلسطينية جوهرية في التقدم نحو انهاء الإحتلال. وبطبيعة الحال كل تطور في الأداء الداخلي على مستوى اصلاح النظام وانهاء مظاهر الفساد وسوء الإدارة وتوسيع نطاق الشفافية والديمقراطية والمشاركة الشعبية وتطوير نظام التعليم واتباع مبادئ الحوكمة السليمة سيقربنا للدولة العتيدة ولتحقيق آمالنا وطموحاتنا المشروعة. فقبل أن نلوم أحداً علينا أن ننظر لأنفسنا أولاً.