في يوم قررت أن ابتدئ نهارا جديدا بمزاجية عالية وبتفاؤل كبير دفعني للسير نحو ما يجبرنا على الوقوف طويلاً للعبور إلى الضفة الأخرى، وهو ما يفصلنا عن الأعضاء المتبقية من نفس الجسد.
فحين قررت الرحيل أو شعرت بالاشتياق لوطنٍ أخر، فقد ناداني الوطن متمسكاً بي من غير إرادتي، أخبرته لا أريد أن أعود، سأذهب لأبحث عن مكان يشبهك لأقضي راحتي فيه، ولكن منعني قوة ضعيفة من الخروج لغير وطن، مثبتاً أقدامي هنا، دون أن يزحزح نظرات الغضب على وجهي جفن عين أحد، بل رأيت من استحكمني بالبقاء نظرات بعينه تملؤها البراءة والتعاطف والحزن الشديد على آسفه من بقائي هنا.
ولكن بعد محاربة من أجل البحث عن موطن آخر أذهب إليه، استحكمني الضعف أمام مناداة الوطن لي للمرة الثالثة، وحين أجبرت على العودة له، أوقفني حراسه!، لكي يسألونني عن ما يخرج الغضب من داخلي، فجلست على تلك الكنبة وشعرت أني مجبرة على الجلوس، ولكن لم يجبرني الجلوس على الكلام، فقلت بجرأة وبصوتٍ مسموع لن أجيب على إي سؤال ولن أقول شيئا سوى الكتابة على ورقة فارغة بيضاء، إجابة وحيدة وهي لا تعليق!
حملتها معي من بلادٍ ارجعتني بحق وهو يأسف على وطني الذي ضاع منذ زمن ولكن انتظره ليس بفارغ الصبر، لأن صبري نفد من الانتظار، لكن ما زال لي أمل هنا أن أعود إلى الوطن الذي قرأت عنه كثيراً بالحكايات الجميلة التي وصفتها لي الكتب المدرسية، فقد وصفت لي وطنا جميلا، ولكن لم تحدثني عن مكانه!
لم تقل لي أنني سأضطر للعيش في غابة اتأمل فيها جمال الشجر، ولكن يتناثر بها مخلفات البشر، هكذا شعرت حين منعني الغضب من الحديث مع هذه المخلفات المتبقية من وراء القوة الضعيفة والخفية، واصررت على أن اكتمها بقلبي مجيباً بلا تعليق!
ولكنه سألني سؤالا لم يدرك أنه مضحك، فحاولت أن اظهر الاستخفاف بسؤاله، وقلت أين الوطن إن كان من يحرسوه اسقطوا أوراقه ليستبدلوها بشجرة جديدة لكن دون ماء ودون تراب ودون مزارع؟، شجرة ما زالت معلقة بالهواء دون من يرعاها، أو يروي عطش تلك الجذور لتستطيع البقاء، ولكن اجابني باستهزاء: جار البحث عن مزارع جديد يروي لنا تلك الشجرة وإن شاء الله بنلاقيه!!!
ولكن حين نظرت إلى المخلفات من حولي وقفت متأملة نظرتي للإجابة، فرأيت نظرة مستخفة والأخرى ابتسامة خبيثة يرسمها على وجهه، وحين سألني عن ذلك العِلم!، وسألني عن حريتي في التعبير!، فلن يمنعني شيء عن الابتسام، واجبت،!! ذلك العِلم لن ينفعني في وطن بلا مواطن، وفي وطن يجبرني ان ادفع ضريبة البقاء وضريبة على قول الكلمة ويجبرني على السؤال!!!، ويجبرني على أن ادفع ثمن حريتي التي انتزعت مني قبل أن امتلكها، فلا تسألني عن عمل ولا تسألني عن عِلم، فسجل، أنا في هذا الوطن سأبقى عاطلة عن العمل طالما لي وطن ضائع لا يعترف بي ولا يعلم شيء عن وجودي.
وحين سألني عن أكثر سؤال أوجعني فلن يكن السؤال مؤلماً أكثر من وجع الإجابة، وهي هويتي الضائعة ولونها الغريب عني، يعتقدون أن لونها يشعرني بالتفاؤل، ولكن لونها كل ما اتأمل به يشعرني بأني بلا وطن، بلا حرية، هذه ضريبة لون وطن رسموا له هوية، فأجبت: إن كان يعجبك ذلك اللون فأنا ساهديك أياه من طير مكسور جناحه لا يستطع الوصول لعشه ولا يستطع أن يحلق عالياً لبناء غيره، فأنا بريئة من هوية لوطن غريب أكون فيه فقط رقم يأس على علو تلك البطاقة، سأحرقها لأني لا أريد أن أكون منتمية لذلك الوطن المهجور من طيوره، وطنيتي بداخلي تنزف دماً على وطنٍ ضاع ورحل بعيداً عني، ويسكنه أرانب يشعروني أن قوتهم بالحفاظ على جحرهم أقوى من حفاظ الأسود على تلك الغابة، فهو وطني المغترب، الذي يسكنه غرباء، وأنا ضيفة فيه، ولكن أجبرني لونه على البقاء ضيفة لا أرحل للبحث عن وطن أخر.
والآن مضطرة أن أعيش في وطن بلا وطن وبلا سكان، يملأها زائرون ينتظرون العودة إلى أرض المهجر! في حين أعلم أن هناك الكثيرين يريدون أن يسألوني أو متشوقون لسؤالي إن كنت وصلت لوطنٍ آمن، وإن وصلت بخير!! وينتظرون أن اتحدث عن رحلتي الشاقة، ولكن ماذا أريد أن اتحدث عن وطن اكهله الزمن في داخلي ويوصف لي غربة المكان ويبحث عن نفسه في احشائي وهو يبكي على ماء كان يروي متعطشيه، وأرض كانت تروي نظر عشاقه، يتأملون فيها روعة المكان وجمال من يدوسون على أرضه، لكن تدنست المعاني، وتبعثرت الكلمات أمام آلم الإجابة، وزيادة ألم وطني إن كنت أجبته كم أشعر بغربتي ووحدتي من دونه، فهو الآن يمكث بين يد الغرباء، ويحافظون عليه وكأنه وطني! ووضعوه بمكانٍ جار البحث عنه ولكن لا اعلم إن كان سيكتب لي التاريخ يوماً التعرف عليه، أم سأبقى استمتع برواياته الجميلة التي تتحدث عن وطن في بلد العجائب، حكاية سمعها العالم ولكن تبقى بأنظارهم إحدى الروايات الخيالية؟! وبالنهاية أريد أن أخبركم أصدقائي لا خروج من وطني الضائع ولا عودة لوطن غريب، عدت إلى أحضانكم لن أذهب إلى أي مكان طالما أني لست بخير هنا، وسأبقى هنا مواطنة جيرانها غرباء، واضطر التاريخ أن يسجلني في احصائياته على قائمة الزائرين لهذا الوطن منذ 30 عاماً، ولليوم وانا انتظر للعودة إلى وطني.