تفاوتت المواقف تجاه تطبيع العلاقات بين تركيا وإسرائيل بين التأييد والتنديد، فالذين قدَّموا الكلمة الطيبة لجهود الرئيس أردوغان نظروا للمسألة من باب أن تركيا لم تدّخر جهداً إلا وبذلته، من أجل رفع الحصار عن قطاع غزة، حيث تحركت إقليمياً لحشد الدعم لموقفها، إلا أنها لم تلق آذاناً صاغية، بل كان التواطؤ من بعض الجهات الفلسطينية والعربية لتشديده، بهدف تركيع الحالة السياسية في القطاع من ناحية، وكسر شوكة الفعل المقاوم من ناحية أخرى.
والذين تسابقوا في التشكيك وكيل الاتهامات هم في أغلبهم من الجهات المتحاملة أصلاً على تركيا، وتدين سياساتها تجاه سوريا، وتقف إلى جانب روسيا - سياسة وأيديولوجيا - ولا تريد للقطاع أن يشهد حالة من الانفراج السياسي والاقتصادي، والقدرة على الخروج من دائرة الهمِّ والغمِّ والمعاناة .
لقد تابعنا ما كتبه المؤيدون وما سطرته أقلام بعض المتحاملين والمحرضين، وهناك أيضاً مساحة من الاعتراض لدى البعض مرجعها أن التطبيع غير مرحب به؛ فلسطينياً وعربياً وإسلامياً، وأن تقوم به دولة بوزن تركيا، التي تترأس حالياً منظمة التعاون الإسلامي، فإن ذلك سوف يشكل مخاطر وتهديدات ليس فقط على الفلسطينيين وحدهم، بل أيضاً على الأمة بأسرها.
لم يكن سهلاً على فلسطيني - وإسلامي مثلي - أن يدافع عن مثل هذه الخطوة، ولولا معرفتي اللصيقة بالأتراك منذ 1970، واحتكاكي بالعديد من قياداتهم السياسية منذ مطلع التسعينيات كنجم الدين أربكان والسيد عبد الله غول، ثم بعد ذلك اللقاءات مع د. أحمد داود أوغلو والرئيس رجب طيب أردوغان، والتي منحتني الفرصة لفهم ومعرفة تفكير تلك القيادات فيما يتعلق بمشروع الأمة، والمكانة المتقدمة للقضية الفلسطينية كنقطة مركزية في أفكار ووجدان هؤلاء.
نعم؛ إن السياسة هي درجة احتراق الأيديولوجيا، وهي لعبة تحكمها وتضبط ايقاعها المصالح بين الدول، وإن كانت الهوية الإسلامية للاعبين تفرض عليهم التزامناً أخلاقياً بأن تكون هذه المصالح محكومة بالقيم والمبادئ.
الكل يعلم أن تركيا أردوغان هي الدولة المسلمة التي حاولت الوقوف إلى جانب الشعوب العربية خلال انتفاضتها على الظلم والاستبداد، فيما كان يسمى بالربيع العربي، واعتمدت في سياساتها تقديم واجب النصرة والتأييد، ودعم الأنظمة التي تشكلت نتيجة لذلك التغيير في كل من تونس ومصر وليبيا.
للأسف، مع انتكاسة الربيع العربي وعودة كيانات الاستبداد، وجدت تركيا أردوغان أنها في مواجهة مع هذه الأنظمة التي تغولت على السلطة واستخفت بشعوبها، وبالتالي تقطعت أواصر العلاقة، وصار الوضع بالنسبة لتركيا من حالة "صفر مشاكل" إلى أن الوضع أصبح "كله مشاكل".
ومن الجدير ذكره، أن الملف السوري كان هو الأخطر – آنذاك - على أمن تركيا، والذي بات مع تصاعد المعارضة العسكرية لنظام الأسد يهدد استقرارها؛ باعتبار سوريا هي الدولة الجار لحدودها، والذي تربطه بها علاقات تجارية واسعة.. وقد حاولت تركيا من خلال زيارة وزير خارجيتها د. أحمد داود أوغلو إلى دمشق بتاريخ 10 أغسطس 2011، ولقائه بالرئيس بشار لأكثر من ست ساعات، بهدف تقديم واجب النصيحة له، ومساعدته في نزع فتيل الأزمة ووأدها في المهد قبل استفحال الأمور وخروجها عن السيطرة، حيث لا ينفع – عندئذ - ولات حين مندم، وذلك من خلال التسريع بإجراء إصلاحات سياسية - عاجلة - تجنب انفجار الوضع، وانتشار عدوى الثورة ومطالب التغيير في كل الأراضي السورية. ولكن، وكما سمعت مباشرة - في لقاء خاص باستانبول - من وزير الخارجية نفسه أن جهوده ومساعيه لم تؤتِ أوكلها، والسبب كان هو تعنت القيادة السورية، ولجوئها للحل الأمني.
لم تكن تركيا ترغب في خسارة سوريا؛ لاعتبارات لها علاقة بالملف الكردي، وإن انفراط عقد الجغرافيا المذهبي والعرقي قد يعزز من تطلعات الأكراد نحو الاستقلال، وتحريك نزعات أكراد تركيا نحو الانفصال.
ومع اتساع المواجهات بين الشعب والحكومة في سوريا، واستخدام النظام لسياسة العصا الغليظة، انفتحت كل الجبهات هناك لكل من هبّ ودبّ من الأجهزة الأمنية العربية والغربية، ولم تجد تركيا أردوغان مناصاً لها إلا بمحاولة ضبط سير العمليات العسكرية بالاتجاه الذي يمنحها القدرة على التحكم والسيطرة في مآلاتها.
للأسف، خسرت تركيا أردوغان سوريا، عندما دخل تنظيم الدولة (داعش) على خط القتال هناك . ومع تصاعد حالات الصراع واشتداد المواجهات، دخلت روسيا شريكاً للنظام، واختلفت – عندئذ - أجندتها مع الأتراك، الأمر الذي عجّل بالقطيعة بينهم.
وحيث إن حسابات الجيوبولتيك في المنطقة قد تعقدت أكثر فأكثر بعد تصاعد لهجة العداء والتهديد بين تركيا وروسيا، وظهر الغرب الأوروبي والأمريكي أنه غير راغب أو قادر على حسم الصراع في سوريا، وأن رؤية تركيا لتحقيق استقرار المنطقة لم تجد قبولاً لحلفائها الغربيين، بدأ أردوغان الذي تأثرت بلاده كثيراً على المستوى السياسي والاقتصادي جراء اتساع الشرخ مع روسيا بوتين، في البحث عن بدائل وخيارات أخرى لتفكيك المشاكل، التي بدأت تأخذ بتلابيب بلاده. من هنا، جاء التفكير بإسرائيل للاعتبارات السياسية والأمنية والإنسانية التالية:
أولاً) استعادة زخم العلاقة مع أمريكا، والتي تراجعت بسبب الخلاف حول الملف السوري، حيث إن إسرائيل – للأسف - هي الدول التي يخطب ودها الجميع في المنطقة لإصلاح العلاقة مع الإدارة الأمريكية، وكسب الدعم والتأييد لها.
ثانياً) الحفاظ على مكانة تركيا باعتبارها الممر الآمن للطاقة، وأن الغاز الإسرائيلي باتجاه أوروبا لن يأخذ مسارات أخرى غير الموانئ التركية .
ثالثاً) الحاجة لتحجيم الطموحات الكردية والتطلعات نحو الاستقلال، وذلك بقتل فكرة تقسيم سوريا إلى دويلات يكون للأكراد فيها حظ وافر لتشكيل كيانية مستقلة تتواصل مع اقليم كردستان العراق، وتشكل خطراً حقيقياً على استقرار تركيا، وذلك عبر تحريك الأقلية الكردية فيها، والتي تمثل أكبر تكتل سكاني وجغرافي للأكراد حول العالم.
رابعاً) تهديدات الإرهاب؛ والتي تعاظمت منذ القطيعة مع روسيا، حيث إن الموساد الإسرائيلي يمتلك أكبر شبكة نفوذ داخل المجموعات الكردية، والتي تقوم بالكثير من التفجيرات الإرهابية داخل المدن التركية، الأمر الذي سيؤدي من خلال التنسيق الأمني لكشف شبكاته العاملة على الساحة التركية.
خامساً) تقديم جهد الاستطاعة للتخفيف من معاناة الفلسطينيين في قطاع غزة، بعد أن انقطع حبل الرجاء في القريب والبعيد، وفشلت كل محاولات رفع الحصار الظالم عنه.
تطبيع العلاقات: الجدل والموقف
لا شكَّ أن تطبيع العلاقة مع إسرائيل هو موقف ليس من السهل الدفاع عنه، خاصة من بلد يتمتع بقيادة إسلامية، ولشعبه ثأر مع هذا الكيان الصهيوني لجريمته التي ارتكبها في المياه الدولية ضد أتراك مسالمين، كانوا في مهمة إنسانية نبيلة، ويحملون مساعدات إغاثية وطبية لإخوانهم المحاصرين في قطاع غزة.
لقد حاولت رصد المواقف التي عبرت عنها جهات فلسطينية إسلامية وأخرى محسوبة على التيار الوطني؛ الليبرالية واليسارية، وقد تفاوتت ردود الفعل بين متفهم للخطوة التي قامت بها تركيا لحماية مصالحها الاستراتيجية بالمنطقة، وبين متحامل ومشكك في أبعاد هذه الخطوة على الشعب والقضية الفلسطينية، وإن كان تطبيع العلاقة مع هذا الكيان الغاصب بمثابة الغُصَّة في حلوقنا جميعاً.
لست بحاجة لاستعراض أو ذكر مواقف غير الإسلاميين؛ لأن المسألة ليست في وارد الجدل والخلاف، فنحن لنا مثلهم أيضاً تحفظات على موضوع التطبيع مع الاحتلال، ولكننا نضع المواقف في سياقاتها السياسية والأخلاقية؛ حيث نحاول أن نفهم ونتفهم الدوافع وراء ما تمَّ التوصل إليه من اتفاق لتطبيع العلاقات، وهل هذا يأتي من باب الترف أم قهر الضرورة ؟ من هنا، تأتي تباينات الموقف بيننا وبين الآخرين، إن ما يهمنا هو قراءة أراء بعض الإسلاميين وأين ذهبت بهم المواقف والتفسيرات المتعلقة بهذا الاتفاق؟
الإسلاميون: بين التفهم والرفض
حاولت حماس في بيانها ألاّ تأتي على ذكر الاتفاق، وأن تكتفي بالإشادة بما قدمته تركيا أردوغان من مواقف لدعم القضية الفلسطينية، وبذكر شهداء سفينة مافي مرمرة، وهذا كان متوقعاً لحساسية العلاقة مع حليفها الاستراتيجي بالمنطقة، وإن كان للساحة الإسلامية بشكل عام موقف آخر.
حركة الجهاد الإسلامي؛ القوة الثانية إسلامياً في قطاع غزة، رفضت تطبيع العلاقات بين تركيا وإسرائيل، وقالت: "إننا في الحركة نرفض الصلح والتطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي من قبل أي طرف عربي أو إسلامي تحت أي مبرر أو ذريعة".
إلا أنها في الوقت نفسه، استدركت بالقول: "بمعزل عن أي اتفاق، فنحن نرحب بأية جهود عربية أو إسلامية لتخفيف معاناة شعبنا الفلسطيني، ونتطلع إلى إنهاء الحصار عن قطاع غزة بالكامل".
ورغبة في استمزاج رأي الإسلاميين من مسألة الاتفاق، ننقل تعليقات ما تداوله البعض منهم على مواقع التواصل الاجتماعي، وهي في مجملها تعكس حالة التفهم لما أقدمت عليه تركيا أردوغان؛ باعتباره أنه يحقق لها مصلحة استراتيجية، وهو بمثابة اتفاق الضرورة، وليس من باب الترف واللهو السياسي.
- الأستاذ أحمد أديب؛ صحفي فلسطيني مقيم في تركيا، قال: إن "ما يحدث اليوم من تغيرات في السياسة الخارجية التركية - سواء كانت تغيرات بسيطة أو تحولات كبيرة - يثبت أن السياسة هي فن الممكن، والتحالفات السياسية تبنى في الحقيقة على المصالح المتبادلة وليس على المرجعيات الأيديولوجية للأحزاب الحاكمة، فالسياسي "يعمل في نطاق ما هو ممكن".. يعني - باختصار - حتى لو اتفقت المرجعية الايديولوجية لحركة حماس مع مرجعية حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا، فلن تُغلب تركيا مصلحة حماس على مصالح تركيا.
- د. حسام الدجني؛ كاتب ومحلل سياسي فلسطيني يقيم في السودان، يرى بأن "الأسباب التي دفعت تركيا للتنازل عن شرط رفع الحصار هي وجود "فيتو" فلسطيني واقليمي ضاغط على الاحتلال الإسرائيلي وداعم لبعض المواقف الصهيونية الرافضة لتشييد ميناء أو مطار؛ وهما أهم معالم رفع الحصار عن قطاع غزة، بالإضافة إلى أن تقاطع المصالح بين الدولتين لا يسمع بإهدار مزيد من الوقت، وعليه كان خيار تخفيف الحصار مدخلا لتجاوز المعضلة".
- د. صالح النعامي؛ إعلامي فلسطيني يعيش في قطاع غزة، كتب قائلاً: "ليست تركيا التي تفرض الحصار على غزة، بل الكيان الصهيوني وبتواطؤ أطراف فلسطينية وعربية أخرى، وبالتالي فإن هذه الأطراف هي التي تتحمل المسؤولية عن معاناة غزة وأهلها.. إن علينا أن نتذكر بأن القيادة التركية حاولت من منطلق التزاماتها القيمية والأخلاقية رفع الحصار، ولكن شتان بين من يحاول رفع الحصار وبين من يتقرب للصهاينة بتشديد الحصار على غزة وأهلها..!! ما العمل؟ إن تركيا قوة إقليمية ذات مصالح كبيرة ومتشابكة، وفي حسابات الدول تتقدم المصالح على حساب الالتزامات القيمية، سيما عندما تتعرض تركيا نفسها لحصار روسي أمريكي أوروبي إيراني، وتقع تحت وطأة هجمة إرهابية غير مسبوقة. إن تركيا لم تخض حرباً ضد إسرائيل وانتصرت فيها، حتى نتوقع أن تفرض شروطها كاملة عليها، إن علينا أن نتذكر أن تركيا التي نراهن على دورها إلى هذا الحد كانت قبل وصول أردوغان وحزبه للحكم من أوثق حلفاء الصهاينة".
- الأستاذ عبد السلام الحايك؛ كاتب ومحلل سياسي من غزة، حاول شرح ما جرى على الشكل التالي: "الأمر ببساطة أن لتركيا مصالحها ونحن لنا مصالحنا، ومن المفترض أن يسعى كل طرف لتحقيق مصالحه، وأن أي نوع من التعاطف التركي معنا كفلسطينيين إنما هو جزء من بنية الخطاب الأيديولوجي للعدالة والتنمية المستمد من تعاطف شرائح كبيرة من الشعب التركي معنا، والتعاطف يمكن تلبيته بأساليب كثيرة أقل تكلفة من العزلة السياسية وخسارة الحلفاء في بيئة متقلبة وخطرة.. من جانبنا - كعرب وكإسلاميين وكفلسطينيين - لم نستطع أن نرتقي بالعلاقة مع تركيا إلى درجة المصالح الحقيقية، خصوصاً مع انحسار الربيع العربي، وتراجع دور الإسلاميين فيه، وفي الوقت نفسه تقدم الحلف المناوئ للإسلاميين في علاقاته مع أمريكا والغرب على حساب الحلف الداعي للتقارب معهم، وها نحن ندفع ثمن هذه التطورات".
- الأستاذ يسري الغول؛ كاتب وأديب، قال: "أتفهم أن يبوح العامة بموقفهم من التقارب التركي- الإسرائيلي والكيل بالشتائم أو السخرية من هذا الطرف أو ذاك، فهؤلاء ليسوا ذوي اختصاص وتحكمهم رؤية قاصرة عن فهم البرغماتية السياسية. ولكنني لا أتفهم كيف ينطلي الأمر على كتَّاب وساسة ومحللين من فهم اللعبة السياسية، أم أن الأمر يكشف عوار ثقافة هؤلاء السياسية وفشلهم الذريع في أبجديات التحليل السياسي تبعاً للنظم السياسة وقواعد صنع القرار وغيرها. ويبدو أننا مضطرون أحياناً أن نتحدث في هذا الشأن بحكم خبرتنا المتواضعة في الشأن التركي. والأمر باختصار؛ أن تركيا - فيما يبدو- أدركت أن دعمها للمعارضة السياسية في المنطقة العربية ولحركات الإسلام السياسي كان خطأ كبيراً رغم مرجعية العدالة والتنمية الإسلاموية، حيث إن المعارضة في المنطقة العربية ليست مؤهلة لاستلام زمام الأمور في بلاد تحكمها أنظمة عميقة، وتسير بمباركة أنظمة عالمية لا يمكنها التخلي عن حلفائها من تلك الأنظمة؛ لأن وجودهم يعني استمرار الاستعمار الغربي الأمريكي لتلك المنطقة، وتحقيق جميع المصالح على الأرض. وإن تركيا اليوم تعلن اعتذارها عن إسقاط الطائرة الروسية والعودة لتطبيع العلاقات بالكامل مع إسرائيل لأن الاضطرابات الداخلية والتفجيرات وتشجيع الأكراد على الانفصال ومحاولة الانقلاب على الحكم من خلال جماعة فتح الله كولن والخلافات الداخلية لحزب العدالة والتنمية التي برزت في خلاف السيد أردوغان مع أحمد داود أوغلو يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن تركيا ليست على استعداد أن تضحي بأمنها وقوتها الإقليمية من أجل جماعة أو حركة، ولكنها ستظل تمسك بورقة حركة حماس واحتواء جماعة الإخوان المسلمين لتثبت للعالم أنها دولة إقليمية لا يمكن الاستغناء عنها، بل والحاجة إليها في ظروف قد تكون حاسمة فيما بعد. لأنها دولة مسلمة قوية مؤثرة".
- الأستاذ إبراهيم المدهون؛ مدير مركز المستقبل للدراسات والأبحاث، يرى أن "مشكلة أردوغان وتركيا اليوم عند كثير من المنتقدين ليس أنها طبَّعت مع الاحتلال الإسرائيلي ومتجهة لاتفاق يعيد العلاقات والتعاون، فهم أنفسهم ينتمون لسلطة تنسق أمنياً وتتعاون بشكل واسع، كما أن اعتراضهم ليس بسبب إخفاق تركيا في رفع الحصار الكامل عن قطاع غزة، فهم أنفسهم يهللون ويدعمون لنظم عربية تشارك في الحصار، وتغلق أبوابها في وجه الفلسطينيين، بل السلطة نفسها هي جزء من هذا الحصار، وكانت عقبة في رفعه وما زالت تعمل على تعزيزه.. إذاً ما هي مشكلة المنتقدين لتركيا وأردوغان ؟! المشكلة الأساسية عندهم، وسبب حملاتهم الإعلامية المتتالية، أن تركيا - اليوم - تتمسك بعلاقات متوازنة مع حماس، وتفتح أراضيها لمؤسسات تدعم حماس وتستقبل بشكل علني ورفيع المستوى قيادات حماس، فأي نظام ودولة يتعامل مع حماس تُصب عليه اللعنة، حتى لو كان هذا النظام يدعم السلطة أيضاً، وهذا ما يفعله أردوغان والذي احتضن الرئيس عباس ودعمه بجل مشاريعه السياسية المتوجهة للأمم المتحدة".
- الأستاذ محمد الشريف؛ ناشط شبابي فلسطيني، عبر عن رأيه قائلاً: "ينتقدون الاتفاق التركي الإسرائيلي من زاوية حماس فقط، متناسين زوايا أخرى أهمها أن تركيا كسرت جبروت إسرائيل، وأجبرتها على الاعتذار والتعويض وهو البند الذي أخَّر الاتفاق منذ بدأت المباحثات قبل ست سنوات.. علينا التذكير أن أردوغان ليس عضواً في مكتب حماس السياسي، وغزة ليست ولاية تركية.. المصالح - يا صالح - من تتكلم وتحدد سياسات الدول، هي من تقدرها وليس نحن، وما تتفضل به علينا نشكرها، فنحن - حقيقة - بحاجة لكل دعم وإسناد.. لا تلوموا أردوغان، ولوموا أنفسكم، يكفيه شرف المحاولة ويكفي من يحاصروننا عار المؤامرة".
- الأستاذة بثينة اشتيوي؛ إعلامية فلسطينية من غزة، أوضحت موقفها بالقول: "الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ليس خليفة المسلمين كما يصوره البعض، فهو رجل أراد أن يخدم الأمة ويسعى قدر الإمكان لذلك، وبالتالي ليس معصوماً، يصيب ويخطئ، ونختلف معه ونتفق، وما قدمه للأمة من خير لم يقدمه أحد من حكام زمننا من العرب والعجم، ومع ذلك يجب أن نعطي الرجل حقه، لا نقدسه ولا نبخسه".
- جمال أبو عامر؛ ناشط فلسطيني من قطاع غزة، أجمل الموقف بالقول: "صحيح أن عالم المصالح يسود عالم السياسة والعلاقات الدولية، ولكن ﻻ بدَّ من التأكيد على أن موازين القوى الدولية والإقليمية هي اللاعب الرئيس في بلورة شكل الاتفاقيات والمعاهدات والتفاهمات بين الدول، ويمكن الجزم بأن ما تمَّ الاتفاق عليه بين تركيا وإسرائيل حتى الآن بشأن غزة لن يخرج عن هذه المفاهيم؛ بل يمكن القول إن تركيا قد تكون ضحت بجزء غير يسير من مصالحها الخاصة لحساب غزة، لكن يبدو أن البعض ﻻ يمكنه لمس ذلك، لما أصابه من ضعف في التصور أو لعمى بالألوان أصاب نظرته السياسية .!!
- الأستاذ سعد إكريّم؛ طالب دكتوراه علوم سياسية، علَّق على المعترضين على الاتفاق بالقول: "العيب ليس في تركيا، العيب هو في قصوركم عن فهم ألف باء سياسة.. لذلك، أقول إن تركيا دولة كبيرة تفهم طبيعة النظام الدولي وتدرك متغيرات الإقليم المعقدة والمتسارعة من حولها، وتمارس العمل السياسي المبني على المصالح العليا لتركيا. فهي تعتبر نفسها قد خرجت بهذا الاتفاق بأقل الضرر، خاصة أنها لم تتخلى عن القضية الفلسطينية، ولكن سقف التوقعات المأمول هو الذي اختلف، وإن كل ما ستقدمه تركيا لغزة من مشاريع مدنية وخدماتية تسهم في تخفيف الحصار المفروض على غزة، وأنا أراها أكثر إنسانية وعروبة وفلسطينية من العرب والفلسطينيين الذين يتحالفون مع إسرائيل لحصار غزة وضرب المقاومة، فالأصل أن نرحب بمواقفها الداعمة لنا ونطورها، ولكن - للأسف - البعض يترك الموضوع الرئيس وهو إسرائيل وحلفائها وينشغل زوراً أو جهلاً بانتقاد تركيا. نعم؛ ليس مطلوباً من أحد أن يثني على التطبيع لأن هذا أمر مرفوض، وهو موقف أصيل، لكن عليكم أن تشكروا أي موقف يسهم في تخفيف الحصار" .
- أحمد ابو ارتيمة؛ إعلامي ومحلل سياسي فلسطيني يعمل في إذاعة الأقصى، قال إن من حقي أن أتناقض أمام هذا المشهد من الاتفاق.. فالتناقض حق أصيل للكاتب حين يكتب في لحظات مضطربة تتداخل فيها العوامل وتتشعب التفاصيل فيصعب إصدار حكم أحادي قطعي على الأحداث.. فحين رافق أبو بكر الصديق النبي عليه الصلاة والسلام في رحلة الهجرة، كان يسير أمام الرسول مرةً وخلفه مرةً، فسأله النبي: لِمَ هذا الفعل؟ فأجاب: "يا رسول الله أذكر الطلب فأمشي خلفك، وأتذكر الرصد فأمشي أمامك".. هذه النفسية التي كانت تسيطر على أبي بكر في تلك الرحلة هي ذات النفسية التي تسيطر على أي واحد فينا في لحظات عدم الوضوح وتناقض الاعتبارات.. في حالة تركيا ودولة الاحتلال أشعر بنفس شعور أبي بكر؛ أتذكر ظروف تركيا وحساباتها السياسية المعقدة وجهودها الإنسانية مع غزة فأمدحها، ثم أتذكر مساوئ التطبيع والمكاسب المتحققة لدولة الاحتلال من اتفاقاتها الاقتصادية مع تركيا فأذم هذا الاتفاق.. هذا الشعور المتناقض ليس ذنبي بل هو التفاعل الطبيعي مع واقع متناقض، لذلك لا تطالبوني بأن أختزل تعقيدات المشهد في رأي واحد قطعي، كيلا أوصف بأني شخص متناقض.. أعتقد أن التناقض أحياناً يكون مؤشر حيوية".
- المهندس عماد الفالوجي؛ وزير سابق ومدير مركز آدم لحوار الحضارات، تساءل قائلاً: هل يريد البعض من تركيا أن تكون فلسطينية أكثر من الفلسطينيين؟!
وأشار بأن تركيا وضعت قيادة الشعب الفلسطيني - سواء الشرعية أو شريكتها - ولم يعترض أحد.. وبالتأكيد تركيا شرحت لهم الظروف الإقليمية التي دفعتها لهذا الاتفاق مع الكيان الإسرائيلي.. لعل البعض اعتقد أن الخلافة العثمانية قامت وستحرك الجيوش المقاتلة.!! الأهم أن ينتبه الفلسطينيون لأنفسهم ويعملوا على الاستفادة من هذه المتغيرات لصالح قضيتهم، فالمصالح هي سيدة الموقف؛ بدون فذلكة أو تبريرات.
- إياد القرا؛ مدير تحرير صحيفة فلسطين الصادرة في غزة، أكد على ما هو مؤكد لدى الفلسطينيين والإسلاميين، قائلاً: إن "التطبيع مع الاحتلال مرفوض رفضاً تاماً، وتحت أي عنوان، وسنبقى ندعو الشعوب والحكومة لمواجهته ورفضه، وأن تُستغل أي علاقة لقوى المقاومة لتوضيح مخاطرة. ولكن من يساهم في رفع الحصار عن غزة نقول له: أهلا وسهلا، ولو بأضعف الإيمان، وندعوه للمزيد، وأن من يساهم في حصار غزة نلعنه إلى يوم الدين.. إن تركيا هي دولة صديقة للشعب الفلسطيني، والرئيس أردوغان هو رجل مواقف له تقديره واحترامه. والشامتون بما يحدث دلالة مرض شخصي لديهم، وأعماهم الحقد الحزبي، وكذلك تلك الدول التي تمارس والقتل والإرهاب ضد شعوبها".
ختاماً.. لن تجد فلسطينياً أو حتى إسلامياً يقبل تطبيع العلاقة بين أي دولة من دول المنطقة وإسرائيل، فهذا في ثقافتنا الوطنية والدينية من المحرمات، ولكنَّ السياسية التي هي في جوهرها انعكاس لموازين القوى، وتقوم أدبياتها على المصالح المتبادلة بين الدول، تجعلنا في موقف العاجز عن الكلام عندما يتعلق الأمر بدولة هي حليف استراتيجي لقضيتنا ولكن الظروف السياسية والأمنية ألجأتها لمعاودة استئناف علاقاتها مع هذا الكيان الغاصب، ولعلي أنقل هنا وجهة نظر د. عبدالناصر سرور؛ أستاذ العلوم السياسية، حيث أوضح بأن "هذا الاتفاق ما هو إلا محصلة حسابات مصلحية دقيقة تخص البلدين، حيث وجد صنَّاع القرار في كلا البلدين أن المصلحة تكمن في التوصل لهذا الاتفاق". وتساءل مستغرباً: لماذا هذا التهافت من التحليلات والتعليقات من السادة الفلسطينيين تحديداً والعرب كذلك، وكأن تركيا قطعة من العجين نريد إعادة تشكيلها أو صياغة شكلها من جديد حسب رؤيتنا؟!.. وأضاف "أيها الأعزاء.. من الأولى لنا وعلينا أن نفهم نحن كعرب وكفلسطينيين أن قواعد اللعبة في العلاقات الدولية والإقليمية المعاصرة ترتكز أساساً علي قاعدة المصالح الاستراتيجية والقوة الاقتصادية والعسكرية.. الخ، فماذا نملك نحن كعرب لكي نتدخل في الشأن التركي، في الوقت الذي تلهث فيه معظم الدول العربية للتقرب من اسرائيل..!!" .
باختصار.. إن مجمل الموقف الإسلامي هو تسجيل الاعتراض على التطبيع، مع إظهار التقدير - في الوقت ذاته - لحرص تركيا والرئيس أردوغان على جهوده الخيِّرة لفكِّ الحصار أو تخفيفه عن قطاع غزة.
حكاية التطبيع مع التطبيع
08 أكتوبر 2023